باعوا عربيته رغم الحكم لصالحه.. مأساة سائق تاكسي فقد رزقه بسبب قرار إداري في حلوان
في لحظة واحدة انهار كل شيء، لم يكن “ مدحت عبد الرحمن” - سائق تاكسي من حلوان وأب لخمسة أبناء - يتخيل أن السيارة التي اشتراها بعرق السنين ستُنتزع منه مرتين: مرة حين سُرقت، ومرة حين باعتها جهة إداريًا.
الواقعة التي بدأت بشراء بسيط في عام 2022، تحولت إلى كابوس قانوني انتهى ببيع السيارة في مزاد علني رغم صدور حكم قضائي نهائي بثبوت ملكيته لها.
قصة عبد الرحمن ليست مجرد نزاع على سيارة، بل مرآة تعكس خللًا إداريًا وقانونيًا فادحًا، حيث يمكن أن تضيع أحكام القضاء بين مزادات الدولة.
شراء على النية وثقة مكسورة
في اواخر عام 2022، اشترى مدحت عبد الرحمن سيارة تاكسي من أحد معارفه في حلوان، والبيع تم بشكل ودي، بثمن اقتطع جزءًا كبيرًا منه من مدخراته، والباقي اقترضه ليسدد ثمن السيارة البالغ نحو 400 ألف جنيه.
لكن البائع، ولأسباب لم يُفصح عنها، لم يُحرر له توكيلًا بالبيع رغم تسلمه المبلغ كاملًا، ما جعل مدحت عبد الرحمن في موقف قانوني هش، يعتمد فقط على عقد البيع الابتدائي، ولم يكن يتخيل أن تلك الثغرة الصغيرة ستكون بداية مأساة طويلة.
من الحلم إلى المحضر
بعد 7 أشهر فقط من الشراء، وتحديدًا في 16 يوليو 2023، استيقظ مدحت عبد الرحمن على صدمة اختفاء سيارته من أمام منزله في منطقة حلوان، فتوجه فورًا إلى قسم شرطة حلوان، وحرر المحضر رقم 13007 جنح حلوان لسنة 2023، متهمًا البائع بسرقة السيارة بعد أن رفض تسليمها رغم علمه بالبيع، وبعد أسابيع من التحقيقات، قررت النيابة حفظ المحضر لعدم كفاية الأدلة، ليبدأ عبد الرحمن رحلة جديدة في البحث عن حقه.
حين عاد اللص للظهور
مرت شهور أخرى من الانتظار حتى جاء القدر بما لم يتوقعه، ففي مطلع عام 2024، فوجئ مدحت عبد الرحمن بمرور السيارة أمامه يقودها نفس الشخص الذي باعها له، فاتصل فورًا بالنجدة، وتم القبض على المتهم واقتياده إلى قسم شرطة مدينة 15 مايو.
حرر المحضر رقم 1309 جنح مايو لسنة 2024، واتُهم فيه البائع بالاستيلاء على سيارة تم بيعها بعقد رسمي، لكن المفاجأة المؤلمة كانت حفظ المحضر الثاني أيضًا، بحجة وجود نزاع مدني وليس جريمة سرقة.
من العقد إلى الحكم النهائي
لم يستسلم مدحت عبد الرحمن، وتوجه إلى القضاء المدني رافعًا الدعوى رقم 206 لسنة 2024 صحة ونفاذ عقد البيع، مطالبًا بإثبات ملكيته القانونية للسيارة.
وبعد تداول القضية على مدار أشهر، صدر الحكم لصالحه في مايو 2025، ثم أيدت محكمة الاستئناف الحكم برقم 394 لسنة 2025، ليصبح نهائيًا واجب النفاذ.
“ساعتها حسّيت إن ربنا رجّع لي حقي، قلت خلاص، هاروح أستلم العربية من النيابة وأرجع أشتغل وأصرف على عيالي.” مدحت عبد الرحمن متحدثًا لـ«النبأ».
التسليم المؤجل: انتظار بلا نهاية
توجه مدحت عبد الرحمن إلى النيابة العامة، وقدم طلبًا رسميًا لتسليم السيارة استنادًا إلى الحكم النهائي، وتم رفع الأمر إلى المحامي العام، الذي أحال بدوره المذكرة إلى الجهة المختصة 579.
وفي يونيو 2025، حصل على تأكيد شفهي من موظفين بأن السيارة تحت الحراسة وسيتم تسليمها قريبًا،
لكن الأيام مرت، ثم الأسابيع، ثم الشهور، دون أي استجابة، وحتى حين أقام دعوى تسليم سيارة في نفس الشهر، كان يظن أن الأمر مسألة وقت، لا أكثر.
الصدمة الكبرى: بيع السيارة دون علمه
في نهاية سبتمبر 2025، وبينما الدعوى ما تزال قيد النظر، تلقى مدحت عبد الرحمن مكالمة صادمة من أحد معارفه: “عربيتك اتباعت في لوط تابع للنيابة يوم 28/9!”.
لم يصدق في البداية، لكن حين توجه إلى المخازن الحكومية، وجد الحقيقة المرة: سيارته بيعت فعلًا في مزاد رسمي مقابل 100 ألف جنيه فقط، أي ربع قيمتها السوقية تقريبًا، ودون أي إخطار أو إنذار.
يقول مدحت عبد الرحمن وهو يبكي: “أنا اللي اشتريتها، ودفعت تمنها، وخدت حكم نهائي إنها بتاعتي، ومع ذلك الدولة باعتها كأنها ملكها! دي مش عدالة، دي مصيبة.”
البيع باطل والإجراء مخالف
أكد محامي السائق الذي تحدثنا إليه أن ما جرى يمثل مخالفة صريحة للقانون، وأوضح (هيثم السحراوى) المحامى أن: “المادة 102 من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أنه لا يجوز التصرف في المضبوطات إلا بعد صدور حكم نهائي في الجريمة أو نزاع الملكية، وبعد إخطار ذوي الشأن، وفي هذه الحالة، هناك حكم نهائي بالفعل لصالح المشتري، وبالتالي بيع السيارة يُعد باطلًا.”
ويضيف: “كان واجبًا على النيابة أن تُسلِّم السيارة للمواطن بناءً على الحكم، لا أن تبيعها. وما حدث خطأ إداري جسيم يستوجب التحقيق فيه وتعويض المتضرر.”
الوجه الإنساني: خمسة أطفال بلا مصدر رزق
وراء الأوراق والأرقام، هناك أسرة انهارت حياتها،
مدحت عبد الرحمن، الذي كان يعمل يوميًا على سيارته لإعالة أسرته، وجد نفسه بلا عمل ولا سيارة ولا تعويض.
خمسة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة - من الجامعة إلى الابتدائي - أصبحوا مهددين بالتوقف عن الدراسة، بينما يطرق هو أبواب العدالة من جديد، تائهًا بين المحاكم والمكاتب.
“أنا مش طالب صدقة، أنا طالب حقي... عربيتي اتباعت ظلم، وأنا عندي حكم نهائي إنها بتاعتي.”
أسئلة بلا إجابات
كيف تُباع سيارة بحكم نهائي بثبوت ملكيتها؟
لماذا لم تُخطر النيابة صاحب الحكم قبل البيع؟
من المسؤول عن تقييم السيارة بسعر أقل من ربع قيمتها الحقيقية؟
أسئلة مفتوحة أمام وزارة العدل والنائب العام والمجلس الأعلى للقضاء، تنتظر إجابة واضحة وموقفًا رسميًا يعيد للمواطن ثقته في العدالة.
ضمير الدولة
قضية مدحت عبد الرحمن ليست حالة فردية، بل ناقوس خطر يطرق ضمير الدولة، إذا كان المواطن الذي لجأ للقانون وكسب حكمًا نهائيًا يُظلم مرتين -مرة من السارق، ومرة من جهة تعطي لكل ذي حق حقه-.
بين الأوراق والقرارات، هناك أسر تُهدم، وأحلام تُسحق، وعدالة تتأخر حتى تكاد تغيب.
ويبقى السؤال الأخير: هل من يعيد لعامل بسيط تاكسيه المسلوب، أم سيظل العدل حبرًا على ورق؟







