رئيس التحرير
خالد مهران

تفاصيل أكبر قضية فساد وتزوير بمحكمة جنوب الجيزة

محكمة جنوب الجيزة
محكمة جنوب الجيزة الابتدائية

في قلب محكمة جنوب الجيزة، حيث يُفترض أن تُحسم النزاعات ويُرد الحق إلى أصحابه، تكشفت خيوط شبكة فساد محترفة جمعت بين موظفين عموميين ومحامين وأصحاب شركات، عملوا معًا على إجهاض العدالة من داخل أروقتها.

مقابل المال، أُخفيت ملفات، وزُورت محاضر، وتعطلت إجراءات التنفيذ، في واحدة من أكبر القضايا التي تحقق فيها نيابة أمن الدولة العليا، والتي كشفت أن الطريق من «الحكم القضائي» إلى «تنفيذه» ليس معبّدًا دائمًا بالقانون، بل قد تمر عليه أقدام المرتشين وأقلام المزورين.

وتكشف «النبأ» في هذا التقرير، صفات المتهمين وطرقهم في التلاعب، ويضع علامات استفهام أمام منظومة يُفترض أن تكون حصنًا للعدالة، لا بوابة للبيع.

رشوة لتعطيل تنفيذ الأحكام القضائية

كشفت التحقيقات أن المتهمَين الأول والثاني، وهما محضرا تنفيذ بقلم المطالبات المتعثرة بمحكمة جنوب الجيزة الابتدائية، طلبا وحصلا على مبالغ مالية على سبيل الرشوة من عدد من المتهمين الآخرين، مقابل الامتناع عن اتخاذ إجراءات الحجز التنفيذي على منقولات بعض الشركات، رغم وجود مطالبات وأحكام قضائية نهائية تستوجب التنفيذ.

وتنوعت مبالغ الرشوة التي حصل عليها الموظفان بين 400 ألف جنيه من رئيس شركة للصناعات الدوائية، و100 ألف جنيه من محامٍ لصالح شركة مطاعم كبرى.

تقديم وتوسط في الرشوة

أظهرت التحقيقات أن عددًا من المتهمين الآخرين، من بينهم رؤساء شركات ومحامون ومديرون ماليون، قدموا أو توسطوا في تقديم تلك الرشاوى.

ووجهت النيابة إلى المتهم الثالث، صاحب مكتب مقاولات، والمتهمَين الرابع والخامس، رئيسَي مجلس إدارة شركتين، تهم تقديم رشوة لموظفين عموميين مقابل تعطيل واجباتهم.

كما وجهت النيابة إلى محامين آخرين (بينهم محامٍ حر، ومحامي شركة صناعات دوائية، ومحامي شركة تجارة مواد غذائية)، تهم التوسط والوعد بتقديم رشاوى، بغرض التأثير على تنفيذ الأحكام.

الاستيلاء على ملفات قضائية

أسندت النيابة إلى المتهمين الأول والثاني تهمة الاستيلاء دون وجه حق على ملف مطالبة قضائية رسمي من وحدة المطالبات القضائية بالمحكمة، واعتبرته جريمة جنائية تهدف إلى تعطيل سير العدالة والتستر على حقوق مالية مستحقة.

وجاء ذلك بتحريض واتفاق مع المتهم الثالث (صاحب مكتب المقاولات) والمتهم السادس (محامٍ حر)، اللذين حرضا على الاستيلاء وقدما المساعدة والمعلومات لإتمام الواقعة.

تزوير محررات رسمية ومحاضر حجز

وجهت النيابة العامة إلى المتهم الأول، بصفته موظفًا عموميًا، تهمة تزوير محضر حجز إداري رسمي، حيث أثبت زورًا انتقاله إلى شركة للتجارة والتوزيع مملوكة للمتهم الخامس، وتحرير محضر حجز صوري لمنقولاتها، وتعيين نفسه حارسًا عليها خلافًا للحقيقة.

كما اتهمته النيابة باستخدام أوراق مزورة وتضمينها في ملف المطالبة القضائية، لإضفاء مشروعية زائفة على إجراء باطل، بالمخالفة للقانون.

اشتراك بالاتفاق والمساعدة في التزوير

اتهمت النيابة العامة المتهم الثاني (محضر التنفيذ الآخر)، والمتهم الحادي عشر (محامٍ حر)، بالاشتراك في جريمة التزوير عن طريق الاتفاق والمساعدة، حيث أمدّ المحامي موظف التنفيذ بمعلومات تفصيلية عن منقولات الشركة وبيانات حارس الحجز لتضمينها زورًا في المحضر.

شبكة فساد ممنهجة داخل المحكمة

أظهرت القضية مدى تعقيد وتشابك شبكة الفساد، حيث شارك فيها موظفون من داخل المحكمة، وعدد من المحامين ورجال الأعمال، وسعت الشبكة عبر التحايل والرشوة والتزوير إلى وقف تنفيذ أحكام قضائية نهائية، لحماية مصالح شركات كبرى متعثرة ماليًا، وإعاقة الحقوق المالية للجهات الدائنة.

خطورة القضية على منظومة العدالة

تكمن خطورة هذه القضية في أنها تمس صميم العدالة، وتفضح ثغرات خطيرة داخل أجهزة التنفيذ القضائي، حيث يمكن لموظف أو محامٍ أو صاحب شركة– مقابل المال– تعطيل حكم قضائي نهائي، أو تزوير مستند رسمي، أو الاستيلاء على ملف قضائي، وكل ذلك يتم داخل أروقة المحكمة.

ويأتي هذا في وقت تعاني فيه الدولة من محاولات إصلاح الجهاز الإداري، ما يفرض ضرورة تشديد الرقابة على إدارات التنفيذ بالمحاكم، وتفعيل آليات مكافحة الفساد المؤسسي من جذوره.

محاكمة مرتقبة... وعدالة تحت المجهر

من المنتظر أن تبدأ محاكمة المتهمين خلال الأسابيع المقبلة أمام محكمة الجنايات، وسط مطالبات من جهات رقابية وقانونية بضرورة توقيع أقصى العقوبات، ليس فقط لمحاسبة المتورطين، بل لاستعادة هيبة العدالة وثقة المواطنين في نزاهة القضاء.

وفي ضوء ذلك، تظل هذه القضية واحدة من أخطر ما كُشف عنه في الآونة الأخيرة، ليس فقط بسبب وقائعها، ولكن لأنها تكشف كيف يمكن تحويل العدالة إلى سلعة... إذا غاب الرادع وشُلت الرقابة.