رئيس التحرير
خالد مهران

اختلاس بالملايين في “وادي الملوك”.. مندوب تسويق يستولي على منتجات بـ8.5 مليون جنيه

مبالغ مالية
مبالغ مالية

في واحدة من أكبر قضايا الاختلاس التي شهدها قطاع الصناعات الغذائية مؤخرًا، تحقق النيابة العامة في اتهام أحد المسؤولين السابقين بشركة وادي الملوك للطحن والصناعات الملحقة باختلاس كميات ضخمة من منتجات الشركة تُقدر قيمتها بنحو ثمانية ملايين وخمسمائة ألف جنيه، كان قد تسلمها بموجب صفته الوظيفية لتوزيعها على عملاء الشركة وتوريد قيمتها إلى الخزينة.

القضية التي هزّت أروقة الشركة ولفتت أنظار الأجهزة الرقابية، تكشف وفقًا لوثائق وتحقيقات رسمية عن ثغرات رقابية سمحت لموظف واحد بالتصرف في بضائع تُمثل ملايين الجنيهات دون رقابة كافية أو متابعة مالية دقيقة.

بضائع للتسويق تتحول إلى “غنيمة شخصية”

تشير التحقيقات الأولية إلى أن المتهم كان يشغل وظيفة مندوب تسويق بشركة وادي الملوك، وتولى بحكم عمله تسويق منتجاتها من الدقيق الفاخر والسلع الغذائية الأخرى.
وكانت إدارة الشركة قد سلّمته كميات كبيرة من البضائع لتوزيعها على عملاء الشركة المعتادين، على أن يقوم بتوريد قيمتها فور التحصيل.

لكن ما حدث حسب محاضر التحقيق وأقوال الشهود أن المتهم لم يُعد تلك البضائع ولم يورد قيمتها المالية، واحتبسها لنفسه بنية التملك، في مخالفة جسيمة لمسؤولياته الوظيفية وواجبات الأمانة.

بلاغ من الشؤون القانونية

بدأ خيط القضية في التكشف حين لاحظت الإدارة المالية وجود عجز غير مبرر في حسابات المبيعات الخاصة بأحد مندوبي التسويق، فتم إخطار الإدارة القانونية التي بدورها أجرت مراجعة داخلية.
وأكد مدير الشؤون القانونية في شهادته أمام جهات التحقيق أن المتهم تسلّم البضائع بحكم وظيفته ولم يقم بسداد قيمتها، مشيرًا إلى أن محاولات الشركة لاسترداد الأموال وديًا باءت بالفشل، مما اضطرها لتقديم بلاغ رسمي للنيابة العامة.

وأوضح في أقواله أن الشركة تكبّدت خسائر مالية جسيمة نتيجة تصرف المتهم في كميات كبيرة من الدقيق والسلع الغذائية، تُقدّر قيمتها وفق الجرد النهائي بـ 8.5 مليون جنيه.

لجنة فنية من خبراء وزارة العدل تكشف الحقيقة

وبناء على قرار النيابة العامة، تم تشكيل لجنة فنية من الإدارة المركزية لخبراء شمال الجيزة، برئاسة الخبير محمود إبراهيم (51 سنة) وعضوية عدد من المحاسبين والخبراء الماليين، لمراجعة المستندات وأذون الصرف والفواتير المرتبطة بتلك العمليات.

وبعد فحص دقيق امتد لأسابيع، انتهت اللجنة إلى نتيجة قاطعة مفادها أن المتهم استلم بضائع بقيمة 8.5 مليون جنيه بغرض التسويق، إلا أنه لم يُورد قيمتها أو يُعد الكميات المسلّمة إليه، ما يُعد من الناحية المالية والفنية واقعة اختلاس مكتملة الأركان.

وأكد تقرير اللجنة أن جميع المستندات التي استلمها المتهم ووقع عليها موجودة، وهو ما يثبت أنه تسلم البضائع رسميًا بموجب وظيفته، وليس كعميل أو متعاقد خارجي.

تحريات الرقابة الإدارية

لم يتوقف التحقيق عند حدود الشركة، إذ أصدرت النيابة العامة تكليفًا لهيئة الرقابة الإدارية لإجراء التحريات حول الواقعة.
وجاءت نتائج التحريات مؤكدة لما ورد في تقرير اللجنة الفنية، حيث أثبتت أن المتهم استغل صفته الوظيفية كمندوب تسويق واستولى على المنتجات المملوكة للشركة واحتبسها لنفسه دون وجه حق.

وأكدت التحريات أن تصرفات المتهم كشفت نية واضحة في التملك، وأنه استفاد من بيع المنتجات لحسابه الخاص، متجنبًا توريد قيمتها لخزينة الشركة، مما ألحق بها ضررًا ماليًا فادحًا.

وأشار تقرير الهيئة إلى أن الشركة ليست كيانًا خاصًا بالكامل، إذ تضم في هيكلها مساهمات عامة من شركات كبرى، ما يجعل الواقعة ذات طابع عام يمس المال العام.

مساهمة كيانات عامة

وبالعودة إلى المستندات الرسمية، تبين أن شركة وادي الملوك للطحن والصناعات الملحقة شركة مساهمة مصرية يشارك في رأس مالها عدد من الكيانات الحكومية والعامة، من بينها:ة شركة مطاحن مصر العليا، والشركة العامة لمخابز القاهرة الكبرى، والشركة العامة للصوامع والتخزين

وهو ما يعني أن الأموال المختلسة تُعد من قبيل المال العام وفقًا للتكييف القانوني، نظرًا لطبيعة الجهات المالكة لأسهم الشركة، الأمر الذي يزيد من جسامة الواقعة ويجعلها خاضعة لأحكام المواد المتعلقة باختلاس الأموال العامة في قانون العقوبات.

مستندات وإقرارات تدين المتهم

لم تقتصر الأدلة على التحريات والتقارير الفنية، بل أظهرت المستندات الرسمية أن المتهم نفسه قدّم إقرارًا خطيًا بمديونيته للشركة، حين طلب منها إجراء حوالة جزئية لتلك المديونية إلى شقيقه بموجب اتفاق رسمي، 
وتضمّن الإقرار توقيعه على كامل المبلغ المستحق للشركة نتيجة المنتجات التي تسلّمها ولم يُورد قيمتها.

ويرى قانونيون أن هذا الإقرار يُعد قرينة قاطعة على ثبوت الدين والاختلاس معًا، إذ يعترف المتهم ضمنيًا بوقائع التسلم والتصرف دون ردّ الأموال.

اختلاس مكتمل الأركان

وفقًا للتحقيقات، فإن التكييف القانوني للواقعة يندرج تحت نص المادة (112) من قانون العقوبات المصري، التي تنص على أن: “كل موظف عمومي اختلس مالًا أو متاعًا أو أوراقًا وجدت في حيازته بسبب وظيفته، يعاقب بالسجن المشدد، وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا ارتبطت الجريمة بظروف مشددة.”

ويرى خبراء قانون أن الجريمة في هذه الحالة تتوافر فيها كافة أركان الاختلاس، من حيث صفة الموظف العام، وحيازة المال بسبب الوظيفة، والنية في التملك، والضرر الواقع على المال العام.

موقف النيابة العامة

من جانبها، استمعت النيابة العامة إلى أقوال الشهود ومدير الشؤون القانونية وأعضاء اللجنة الفنية، واطلعت على المستندات وتقارير الخبراء وتحريات الرقابة الإدارية.

وأمرت النيابة بضبط وإحضار المتهم للتحقيق معه في التهم المنسوبة إليه، كما كلفت الجهات الرقابية والمالية باستكمال الفحص في حساباته البنكية ومعاملاته التجارية، لتتبع مسار الأموال المتحصلة من الجريمة.

وأكد مصدر قضائي أن النيابة تعمل على تتبع جميع الأموال المختلسة لضمان استردادها، مشيرًا إلى أن القضية لم تُغلق بعد وأن التحقيقات ما زالت جارية لكشف أي أطراف أخرى قد تكون شاركت أو سهلت للمتهم ارتكاب الجريمة.

ثغرات الرقابة الداخلية

أثارت الواقعة داخل أروقة شركة “وادي الملوك” تساؤلات عديدة حول آليات الرقابة المالية الداخلية.
فكيف تمكن موظف من الاستيلاء على بضائع بقيمة ملايين الجنيهات دون أن تُكتشف المخالفة إلا بعد فترة طويلة؟

مصدر بإدارة الشركة رفض ذكر اسمه أرجع السبب إلى “ضعف الرقابة الداخلية وتأخر المراجعة الدورية على حسابات المندوبين”، مؤكدًا أن الشركة بصدد إعادة هيكلة منظومة المراقبة المالية وتحديث نظام تتبع المبيعات والمخزون.

النيابة تواصل التحقيق واسترداد الأموال

حتى اللحظة، لا تزال القضية قيد التحقيق أمام النيابة العامة، التي شددت على أنها ستتخذ الإجراءات القانونية كافة لضمان محاسبة المسؤولين واسترداد الأموال المنهوبة.

وأكد مصدر قضائي رفيع أن الواقعة تُعد “نموذجًا لضرورة إحكام الرقابة على الشركات ذات المساهمات العامة”، خاصة في ظل تزايد حالات الاختلاس والفساد الإداري خلال الفترات الأخيرة.

واختتم المصدر تصريحاته مؤكدًا أن “النيابة لن تتهاون في مواجهة أي اعتداء على المال العام، وأن كل من يثبت تورطه في تسهيل أو إخفاء تلك الجرائم سيُحال إلى المحاكمة”.