رئيس التحرير
خالد مهران

عادل توماس يكتب: لماذا لا يوجد قانون يجرّم إفساد الحياة السياسية في مصر؟

عادل توماس
عادل توماس

منذ سنوات طويلة، كان المشرّع المصري حريصًا على وضع نصوص قانونية واضحة لمعاقبة من يفسد الحياة الأسرية أو الاقتصادية أو حتى الاجتماعية، فنجد نصوصًا عن الزنا، والتحريض على الفسق، وخيانة الأمانة، والرشوة، والتزوير، لكن حين نأتي إلى الحياة السياسية، وهي الركيزة التي تحدد مسار الدولة واستقرارها، نصطدم بغياب مادة صريحة تحمل عنوان "إفساد الحياة السياسية".

هذا الغياب يثير علامات استفهام: هل المشرّع لم ينتبه؟ أم أنه تجنّب عمدًا فتح هذا الباب خشية إساءة استخدامه؟ وما أثر ذلك على التجربة السياسية في مصر مقارنة بدول أخرى وضعت نصوصًا حاسمة تردع المتلاعبين؟

كيف يُعالج القانون المصري قضايا السياسة؟

القوانين المصرية تُجرّم بعض الأفعال المرتبطة بالعملية الانتخابية أو العمل الحزبي، لكن بصورة متفرقة، مثل شراء الأصوات حيث يُعتبر جريمة انتخابية، عقوبتها الحبس والغرامة، والتزوير في المحاضر والأوراق الرسمية يُعاقب عليه بالسجن باعتباره تزويرًا في محرر رسمي، اما منع الناخب من التصويت بالقوة أو التهديد فعقوبته الحبس.


لكن هذه النصوص تعالج أفعالًا محددة فقط. أما الممارسات الأخطر مثل استخدام المال السياسي على نطاق واسع قبل وأثناء الحملات، وتأسيس أحزاب "كرتونية" لإرباك المشهد أو شق المعارضة، واستغلال وسائل الإعلام في توجيه الرأي العام بشكل غير عادل، استخدام الدين أو العرق كسلاح انتخابي، أماالتلاعب في القوانين أو الجداول الانتخابية لصالح طرف بعينه، كلها تقع في منطقة رمادية يصعب تكييفها قانونيًا على أنها جرائم واضحة.

قضايا واقعية في مصر

في انتخابات سابقة، انتشرت شكاوى من استخدام المال السياسي في شراء الأصوات، سواء عبر توزيع سلع تموينية أو مبالغ نقدية، ورغم أن بعض القضايا وصلت للنيابة، إلا أن أغلبها لم يُعاقب عليه بسبب صعوبة الإثبات.

أحيانًا تظهر أحزاب أو قوائم انتخابية صورية هدفها تشتيت الأصوات أو منح الشرعية لشكل انتخابي بلا مضمون، وهذه الظاهرة لا يوجد نص يعالجها.

الإعلام السياسي: شهدت مصر فترات استخدم فيها الإعلام كسلاح سياسي للتشويه أو التلميع المبالغ فيه، وهو ما يُعتبر إفسادًا للوعي العام، لكنه لا يدخل تحت أي عقوبة مباشرة.

إلى جانب استغلال دور العبادة في الدعاية الانتخابية: رغم أن القانون يمنعه، إلا أن تطبيق العقوبة نادر وضعيف.

المخاطر الناتجة عن غياب النص

من المخاطر الناتجة عن غياب النص الإفلات من العقاب: فهى ممارسات سياسية فاسدة تظل بلا محاسبة، وتشويه التجربة الديمقراطية حيث أن المواطن يفقد الثقة في أن صوته له قيمة، والنفوذ المالي الطاغي يجعل غياب الردع يسمح لرؤوس الأموال بالتحكم في السياسة، وغياب التوازن يصبح القوانين الحالية تُركز على الجريمة التقليدية (رشوة – تزوير) لكنها لا تُعالج الجرائم "الناعمة" مثل التلاعب بالرأي العام

تجارب دولية ملهمة

ألمانيا

في ألمانيا الدستور يجرّم أي محاولة لتقويض النظام الديمقراطي، ويمكن للمحكمة الدستورية حظر أي حزب يثبت أنه يفسد النظام السياسي، العقوبات تصل إلى الحبس لسنوات.


الولايات المتحدة

في الولايات المتحدة قوانين تمويل الحملات صارمة جدًا، ولجنة الانتخابات الفيدرالية (FEC) تراقب التمويل والإعلانات، وأي تمويل مجهول أو محاولة إخفاء مصادر الأموال تُعتبر جريمة فيدرالية.


الهند

في الهند "قانون مكافحة الفساد السياسي" يحظر المال الأسود في السياسة، والقضاء يبطل نتائج الدوائر التي يثبت فيها شراء أصوات.


المغرب وتونس

في المغرب وتونس أدخلوا نصوصًا واضحة بعد 2011، ففى تونس تجاوز سقف الإنفاق يُبطل النتيجة ويُعاقب المرشح، وفى المغرب تجريم صريح لاستخدام المال أو استغلال النفوذ في السياسة.


فرنسا

في فرنسا تفرض عقوبات على أي مرشح يُثبت أنه تلقى تمويلًا غير مشروع، وقد تصل العقوبة إلى إسقاط عضويته ومنعه من الترشح لفترة زمنية.

لماذا يغيب النص في مصر؟

إشكالية التعريف حيث لا يوجد اتفاق فقهي على معنى "إفساد الحياة السياسية"، والخوف من الاستخدام السياسي نص فضفاض قد يتحول إلى سلاح ضد المعارضين، والاعتماد على النصوص القائمة: المشرّع يرى أن الرشوة والتزوير كافية، وهناك اعتبارات سياسية في نظام تسيطر فيه الدولة على المجال العام، قد لا يُعتبر التشريع ضروريًا.


مقترح لصياغة قانون "إفساد الحياة السياسية"

المادة الأولى

يُعتبر مرتكبًا لجريمة إفساد الحياة السياسية كل من قام عمدًا بأي فعل من شأنه التأثير غير المشروع على إرادة الناخبين، واستخدام المال السياسي للتأثير على العملية الانتخابية، أو تأسيس كيانات صورية لإرباك المشهد السياسي، أو نشر شائعات أو أخبار كاذبة منظمة بغرض التأثير على الاستقرار السياسي أو إرادة الشعب، أو الحصول على تمويل خارجي للعمل السياسي أو الحزبي.


المادة الثانية

وتكون العقوبات الغرامة التي لا تقل عن 500 ألف جنيه ولا تزيد عن 5 ملايين جنيه، والحبس من سنة إلى خمس سنوات، والحرمان من الترشح أو ممارسة أي نشاط سياسي لمدة لا تقل عن 5 سنوات.


المادة الثالثة

تُنشأ هيئة مستقلة تسمى "الهيئة الوطنية للنزاهة السياسية" تتولى مراقبة التمويل والإعلانات والنشاط السياسي، ولها حق الإحالة للنيابة العامة.

البعد الأخلاقي والسياسي

السياسة ليست مجرد منافسة على مقاعد، بل هي عقد اجتماعي ينظم علاقة الدولة بالمواطن، وإذا كان القانون يحمي الأسرة الصغيرة من التفكك، فمن باب أولى أن يحمي "الأسرة الكبرى" وهي الوطن من العبث السياسي، وغياب هذا النص يجعل السياسة في نظر الناس لعبة بلا قواعد، ويعزز ثقافة العزوف عن المشاركة.

إفساد الحياة السياسية ليس جريمة عادية، بل هو الجريمة التي تُسقط معها قيمة كل القوانين الأخرى، لأنها تنزع الثقة في الدولة نفسها، فدول كثيرة واجهت هذا الخطر بتشريعات واضحة وصارمة، بينما في مصر ما زلنا نعتمد على نصوص عامة لا تكفي وحدها.

ويبقى السؤال: هل سنشهد مبادرة تشريعية تضع أول قانون مصري يجرّم "إفساد الحياة السياسية"، أم سيظل الباب مفتوحًا أمام من يستخدم المال أو النفوذ لتزييف إرادة الشعب بلا عقاب؟.