موظفو العدادات في شركة مياه الشرب يستغيثون: «عايزين حقنا.. مش أكثر»
تتصاعد في صمت أزمة جديدة داخل أروقة شركة مياه الشرب والصرف الصحي التابعة لقطاع الأعمال العام، طرفها هذه المرة مئات الموظفين بإدارة العدادات في مناطق حلوان والتبين والمعصرة واغلب فروع القاهرة، وتمتد ظلالها إلى عدد كبير من الفروع التابعة للشركة في القاهرة الكبرى.
فبينما يتحمل هؤلاء الموظفون واحدة من أكثر المهام الميدانية صعوبة، تتراكم فوق أكتافهم الضغوط المعيشية والإدارية، لتتحول بيئة العمل إلى ما يشبه “المعركة اليومية من أجل البقاء”.
بداية الأزمة.. تجاهل متراكم
حسب العاملين، لم تبدأ الأزمة فجأة، بل تراكمت على مدى سنوات طويلة نتيجة تجاهل إداري لمطالب أساسية تتعلق بالأجور والعلاوات والبدلات.
ورغم القرارات الحكومية المتكررة برفع الحد الأدنى للأجور منذ عام 2016، فإن تطبيقها داخل بعض إدارات الشركة ظل انتقائيًا أو مجتزأ، وهو ما اعتبره الموظفون “إهدارًا لحق مكتسب” أقرته الدولة لجميع العاملين بالجهاز الإداري والقطاع العام.
أحد موظفي العدادات في فرع التبين قال في حديث لـ«النبأ»: “إحنا بننزل نقرأ عدادات في عز الحر والمطر، نمشي مسافات طويلة، نتحمل شكاوى الناس ومشاكل التحصيل، وفي الآخر بنرجع نلاقي المرتب ما يكفيش أسبوع. إحنا مش بنطلب حاجة فوق القانون، إحنا بنطلب اللي المفروض يتطبق من زمان.”
مطالب عادلة.. وحقوق مؤجلة
تجسدت مطالب العاملين في قائمة شاملة تضم 13 مطلبًا رئيسيًا وصفوها بأنها “الحد الأدنى للحياة الكريمة داخل بيئة عمل منهكة”.
جاء في مقدمتها احتساب فروق العلاوات المتأخرة منذ عام 2016، وتطبيق الحد الأدنى للأجور بعدالة تراعي الأقدمية، بالإضافة إلى زيادة بدل الانتقال والغذاء بما يتناسب مع الارتفاع الكبير في الأسعار.
كما طالب الموظفون بـاستثناء الحوافز والساعات الإضافية ونسبة التحصيل وبدل الانتقال من حساب الحد الأدنى للأجور، مؤكدين أن خصمها من إجمالي المرتب “يُفرغ القرار من مضمونه” ويجعل الزيادة المعلنة مجرد رقم بلا أثر فعلي في الدخل.
ومن المطالب اللافتة كذلك تعديل منظومة الخدمة الطبية لتشمل الأقارب من الدرجة الأولى، وصرف مكافأة الأداء السنوية عن آخر سنة مالية، مع الحفاظ على حق الإجازات المرضية دون تعسف، وإلغاء إجبار الموظفين على العمل لساعات إضافية إلا برغبتهم.
“إحنا مش ضد الشركة.. إحنا معاها بس بالعدل”
اللافت أن العاملين، رغم احتجاجهم وامتناع بعضهم مؤقتًا عن العمل، شددوا على حرصهم على عدم تعطيل مصالح المواطنين، مؤكدين أن تحركهم هدفه إصلاح أوضاع داخلية وليس تصعيدًا ضد الإدارة.
يقول أحد مسؤولي العدادات بحلوان: “إحنا بنخدم الناس من سنين، بس تعبنا من الوعود اللي ما بتتنفذش. كل اللي طالبينه إننا نشتغل في بيئة محترمة، ومرتبات تكفينا نعيش بكرامة.”
خلف الكواليس.. بيروقراطية تثقل الكاهل
مصادر داخل الشركة كشفت أن جزءًا من الأزمة يرجع إلى تداخل الصلاحيات بين الإدارات المالية والموارد البشرية، وعدم صدور قرارات واضحة من الإدارة العليا بشأن آليات تطبيق الحد الأدنى للأجور، خاصة فيما يتعلق بالعاملين الميدانيين.
وأضافت المصادر أن بعض الفروع تحتسب الحوافز ضمن الحد الأدنى للأجر، بينما فروع أخرى تستثنيها، ما أدى إلى تفاوت صارخ في الرواتب بين موظفين يؤدون نفس المهام في أماكن مختلفة.
هذه الفجوة خلقت شعورًا عميقًا بالظلم داخل صفوف العاملين، خصوصًا أولئك الذين يعتمدون على نسبة التحصيل أو قراءة العدادات كمصدر رئيسي للدخل.
ظروف عمل قاسية.. وبيئة بلا حماية
إدارة العدادات تعد من أكثر الإدارات احتكاكًا بالجمهور، إذ يقضي موظفوها ساعات طويلة في الشوارع، بين الأبراج السكنية والمناطق الشعبية، وغالبًا دون وسائل نقل أو وقاية كافية.
في المقابل، لا يحصل كثير منهم على بدل انتقال مناسب أو تأمين ميداني فعّال، ما يزيد من إحساسهم بالإجحاف.
يقول أحدهم: “بننزل في مناطق بعيدة، أوقات بنمشي على رجلينا كيلومترات، ونرجع آخر اليوم نتحاسب كأننا كنا قاعدين في مكتب. مفيش تقدير للجهد اللي بيتبذل.”
تصاعد الاحتجاجات.. وغياب الاستجابة
مع استمرار تجاهل المطالب، لجأ العاملون مؤخرًا إلى الامتناع عن العمل في بعض المناطق، كخطوة احتجاجية سلمية.
وأكد ممثلون عن الموظفين أنهم أبلغوا الإدارة مسبقًا بمطالبهم أكثر من مرة دون استجابة تُذكر، ما اضطرهم إلى التصعيد الرمزي لإيصال صوتهم.
وقال أحد المحتجين: “إحنا ما عندناش نية نضيع وقت الناس ولا نوقف مصالحهم، لكن لازم الإدارة تسمعنا. لو ما فيش حل قريب، الوضع هيبقى أصعب.
الحد الأدنى للأجور.. أزمة تطبيق لا قرار
اللافت أن أغلب العاملين لا يعترضون على السياسات الحكومية، بل على آلية التطبيق داخل الشركة، حيث يرى الموظفون أن القرارات تُنفذ “انتقائيًا” وبدون شفافية.
في المقابل، تبرر بعض الإدارات التنفيذية تأخر التطبيق بـ“الظروف المالية للشركة”، وهو ما يعتبره العاملون حجة غير منطقية في ظل تحقيق الشركة إيرادات منتظمة من التحصيل الشهري.
ويشير خبراء اقتصاديون إلى أن تطبيق الحد الأدنى للأجور بشكل كامل لا يمثل عبئًا حقيقيًا على ميزانية الشركات الخدمية، ما دام يتم ضبط هيكل المصروفات الإدارية وتقليص الهدر المالي.
العدادات.. نبض الشركة الحقيقي
يرى عدد من المراقبين أن موظفي العدادات يمثلون الواجهة الحقيقية لشركة المياه أمام الجمهور، فهم أول من يواجه الشكاوى وآخر من يغادر الميدان، ومن ثم فإن تحسين أوضاعهم يجب أن يكون أولوية لا ترفًا.
كما أن تحفيزهم سينعكس مباشرة على كفاءة التحصيل وتقليل الفاقد، ما يعني أن تلبية مطالبهم ليست تكلفة إضافية، بل استثمار في كفاءة المؤسسة ذاتها.
“العدالة أولًا”
في النهاية، تبقى أزمة موظفي العدادات في شركة مياه الشرب نموذجًا مصغرًا لمشكلة أوسع داخل كثير من مؤسسات القطاع العام، حيث تتداخل البيروقراطية مع ضعف العدالة الوظيفية، فيتراجع الأداء وتختنق الروح داخل بيئة العمل.
ما يطالب به هؤلاء ليس أكثر من تطبيق القانون بإنصاف، وإعادة الاعتبار لمن يحملون على أكتافهم أعباء الخدمة العامة في الشوارع والمنازل، بعيدًا عن المكاتب المكيفة.
فربما لو استمعت الإدارة إلى صوت الميدان قبل فوات الأوان، لتحولت الأزمة إلى فرصة لإصلاح حقيقي، بدلًا من أن تظل “قضية مؤجلة” جديدة في أرشيف الشكاوى.







