رئيس التحرير
خالد مهران

المستشار وليد عز الدين يكتب: الشخصية الاعتبارية للشركات في القانون المصري

المستشار وليد عز
المستشار وليد عز الدين

في عالم الشركات والاقتصاد، لا تُقاس القوة فقط برأس المال أو حجم النشاط، بل بالصفة القانونية التي تمنح الكيان الاقتصادي وجوده المستقل داخل منظومة القانون.

ومن هنا تتجلى أهمية الشخصية الاعتبارية للشركات، فهي ليست مجرد اصطلاح فقهي، بل هي الركيزة التي يقوم عليها البناء القانوني والاقتصادي للمشروعات الحديثة.

إنها الروح القانونية، التي تنفخ الحياة في جسد الشركة، فتجعلها شخصًا قانونيًا مستقلًا، له إرادة وذمة مالية وحقوق والتزامات.

أولًا: ماهية الشخصية الاعتبارية ومصدرها القانوني

تقوم فكرة الشخصية الاعتبارية على أساس جوهري مفاده أن الشركة بعد تأسيسها واكتمال إجراءاتها القانونية لا تُعد مجرد مجموعة أشخاص، بل كيانًا مستقلًا عن الشركاء المؤسسين.

وأقر القانون رقم 159 لسنة 1981 بشأن الشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم والشركات ذات المسؤولية المحدودة هذا المبدأ بوضوح، إذ نص على أن الشركة تكتسب شخصيتها الاعتبارية بمجرد قيدها في السجل التجاري.

ومنذ هذه اللحظة، تصبح الشركة شخصًا قانونيًا له وجود ذاتي منفصل، يملك ويُقاضي ويُقاضى، ويُسأل في حدود أمواله الخاصة.

وإن هذا الاعتراف القانوني لا يقوم على المجاز، بل على ضرورة واقعية يفرضها التعامل الاقتصادي الحديث، حيث لا يمكن لكل مشروع أن يقوم على مسؤولية الأفراد الشخصية وحدها، وإلا لانهارت الثقة وتراجع الاستثمار.

ثانيًا: آثار الشخصية الاعتبارية – استقلال وقيود

إن الشخصية الاعتبارية ليست وصفًا رمزيًا، بل تُنتج آثارًا قانونية ملموسة أهمها:

1. الذمة المالية المستقلة:

للشركة ذمة مالية خاصة بها لا تختلط بذمم الشركاء. فلا تمتد ديون الشركة إلى أموالهم الشخصية، إلا وفق نوع الشركة (في شركات الأموال) أو في الحدود التي يقرها القانون (في شركات الأشخاص).

2. الاسم التجاري والجنسية والموطن:

للشركة اسم يميزها عن غيرها من الكيانات، وجنسية تُحدد وفقًا لمركز إدارتها الرئيسي، وموطن قانوني تُرسل إليه الإخطارات، مما يمنحها مركزًا قانونيًا محددًا ومستقلًا.

3. القدرة على التقاضي والتصرف:

للشركة أن تُقاضي وتُقاضى باسمها، وتبرم العقود، وتتحمل الالتزامات، دون أن يترتب على ذلك مسؤولية شخصية على الشركاء أو المديرين ما لم يثبت تجاوز أو غش.

ثالثًا: رفع الحجاب عن الشخصية الاعتبارية – حين يُساء استخدام الاستقلال

رغم أن القانون المصري يحمي استقلال الشركة، إلا أنه لا يسمح باستغلال هذا الاستقلال للتحايل أو الإضرار بالغير.

فإذا تبين أن الشركة مجرد ستار يخفي تصرفات غير مشروعة، أو وسيلة للتهرب من المسؤولية، جاز للمحكمة أن ترفع الحجاب عن الشخصية الاعتبارية وتحاسب الأشخاص الحقيقيين وراءها.

وقد استقر قضاء محكمة النقض المصرية على هذا المبدأ، حيث أكدت في العديد من أحكامها أن:

الشخصية الاعتبارية للشركة لا يجوز أن تُتخذ ستارًا للإضرار بحقوق الغير، فإذا استُغلت لهذا الغرض جاز رفع الحجاب عنها ومساءلة الشركاء أو المديرين شخصيًا.

وهكذا، فإن استقلال الشركة ليس حصانة مطلقة، بل هو استقلال مشروط بالنزاهة واحترام القانون.

رابعًا: أهمية الشخصية الاعتبارية في بناء الاقتصاد المؤسسي

الشخصية الاعتبارية تمثل الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد المؤسسي الحديث.

فهي تُمكّن المستثمرين من العمل ضمن كيانات قانونية مستقلة تحميهم من المخاطر الشخصية، وتُشجع على ضخ رؤوس الأموال في السوق بثقة وطمأنينة.

كما أن هذا المفهوم القانوني العميق هو ما أتاح قيام الشركات الكبرى والبنوك والمؤسسات العابرة للحدود، التي تُدار بقواعد الحوكمة والشفافية والمساءلة.
وبالتالي، يمكن القول إن الشخصية الاعتبارية ليست فقط مبدأ قانونيًا، بل أداة اقتصادية لضمان الاستقرار والنمو.

خامسًا: بين الميلاد والانقضاء – دورة حياة الكيان القانوني

الشركة تولد بالقانون، وتحيا تحت مظلته، وتموت بقراره.

فهي تكتسب شخصيتها الاعتبارية بالقيد في السجل التجاري، وتفقدها بالحل أو الانقضاء بعد التصفية.
وحين تُمحى هذه الشخصية، تزول الذمة المالية المستقلة وتعود الحقوق والالتزامات إلى أصحابها أو دائنيها وفقًا للقانون.

وإن الشخصية الاعتبارية للشركات ليست مجرد مصطلح فقهي جامد، بل هي الركيزة التي تمنح المشروع الاقتصادي حياته القانونية واستقلاله ومسؤوليته.
وبقدر ما نُحسن فهم هذا المفهوم ونحترم حدوده، بقدر ما نبني مؤسسات قوية تخضع للقانون لا للأشخاص، وتخدم الاقتصاد الوطني بروح المسؤولية والشفافية