رئيس التحرير
خالد مهران

المستشار وليد عز الدين يكتب: دور الدولة في تنظيم السوق الحر بين مقتضيات الاقتصاد الحديث وحدود التدخل القانوني

المستشار وليد عز
المستشار وليد عز الدين

لم يعد الجدل حول دور الدولة في النشاط الاقتصادي مجرد نقاشٍ أكاديمي بين أنصار الحرية الاقتصادية ودعاة التدخل الحكومي، بل أصبح مسألة عملية تمس جوهر استقرار المجتمعات وتوازنها الاجتماعي.

فالسوق، وإنْ كان يقوم على حرية المبادرة الفردية وقانون العرض والطلب، إلا أنه بطبيعته معرض لاختلالاتٍ قد تفضي إلى احتكارٍ أو استغلالٍ أو اضطرابٍ اقتصادي واسع.

ومن ثمّ، لم يعد من الممكن تركه بلا ضابط، إذ إن الحرية الاقتصادية المطلقة قد تنقلب إلى فوضى اقتصادية تهدد الكيان الاجتماعي ذاته.

هنا تتجلى الدولة، لا بوصفها منافسًا للتجارة أو عائقًا أمام المبادرة، بل بوصفها المنظِّم الأعلى الذي يحقق التوازن بين حرية السوق ومتطلبات العدالة العامة.

أولًا: الإطار الدستوري لدور الدولة في الاقتصاد

كرّس الدستور المصري لسنة 2014

مبدأ التوازن بين الحرية الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية، حين نصّت المادة (27) على أن

"يهدف النظام الاقتصادي إلى تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية... ويكفل حرية النشاط الاقتصادي، ويمنع الممارسات الاحتكارية، ويكفل حماية المستهلك".

هذا النص الدستوري يضع الدولة في موقع الضامن لتوازن السوق لا المتحكم فيه، ويُحمّلها واجب التدخل حين تهدد الممارسات الاقتصادية غير المشروعة مصالح المجتمع.

فالدولة هنا ليست خصمًا لحرية السوق، بل هي حارسها القانوني، تسهر على ألا تتحول المنافسة إلى استغلال، وألا تتحول الحرية إلى فوضى.

ثانيًا: آليات تدخل الدولة في تنظيم السوق

يتخذ تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية صورًا متعددة، تتدرج من الضبط التشريعي إلى الرقابة الإدارية، وصولًا إلى المشاركة الاقتصادية المباشرة، وفق ما تمليه الظروف الاقتصادية والسياسات العامة للدولة.

1. التدخل التشريعي

يتمثل في سنّ القوانين التي تُنظِّم حرية السوق وتُقيدها عند الضرورة، ومن أبرزها:
* قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية رقم 3 لسنة 2005.
* قانون حماية المستهلك رقم 181 لسنة 2018.
* قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017.

2. التدخل الإداري

تتجسد هذه الصورة في دور الأجهزة الرقابية المتخصصة مثل:
* جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية.
* جهاز حماية المستهلك.
* الهيئة العامة للاستثمار.

وهي مؤسسات تستمد قوتها من استقلالها وقدرتها على تطبيق النصوص القانونية دون محاباة أو ترد، ضمانًا لتكافؤ الفرص بين المتعاملين في السوق.

3. التدخل الاقتصادي المباشر

وفي بعض القطاعات الاستراتيجية، تتدخل الدولة مباشرة باعتبارها فاعلًا اقتصاديًا من خلال شركات القطاع العام أو المشروعات القومية الكبرى، لا بغرض منافسة القطاع الخاص، بل لتحقيق أهداف التنمية الوطنية وتوفير احتياجات المجتمع الحيوية التي يعجز عنها منطق السوق الربحي البحت.

ثالثًا: الحدود القانونية لتدخل الدولة – بين الحرية والرقابة إن أخطر ما يواجه النظام الاقتصادي ليس غياب تدخل الدولة، بل تجاوز هذا التدخل لحدوده المشروعة. 
فالتدخل إذا تجاوز غايته التنظيمية إلى التحكم المفرط أو التوجيه القسري للسوق، أفقد الاقتصاد مرونته وجاذبيته، وأضر بثقة المستثمرين المحليين والأجانب.

ويُقرّ الفقه والقضاء المصريان بمبدأٍ جوهري مفاده أن: "تدخل الدولة مشروعٌ بقدر ما يخدم المصلحة العامة، وغير مشروعٍ إذا مسّ جوهر الحرية الاقتصادية أو أخلّ بالمنافسة المشروعة.

رابعًا: الدولة في مواجهة الأزمات الاقتصادية

يتجلى دور الدولة بأوضح صوره في فترات الأزمات، حين تهتز الأسواق ويضطرب ميزان العرض والطلب.

ففي مواجهة التضخم أو الأزمات المالية أو الجوائح العالمية، قد تتدخل الدولة لتحديد الأسعار أو فرض قيودٍ مؤقتة على الاستيراد والتصدير أو تقديم دعمٍ مباشرٍ للفئات الأشد احتياجًا، حمايةً للأمن الاقتصادي والاجتماعي.

ويجد هذا التدخل أساسه في مبدأ الظروف الاستثنائية الذي يُجيز للإدارة اتخاذ تدابير مؤقتة تفرضها المصلحة العامة.

خامسًا: مقارنة مختصرة بالنماذج الاقتصادية المقارنة

في الأنظمة الليبرالية الكلاسيكية، كالولايات المتحدة، يُقصر تدخل الدولة على حماية المنافسة عبر قوانين مكافحة الاحتكار مثل قانون شيرمان لعام 1890، تاركًا لبنية السوق حرية أوسع.

أما في النموذج المصري، فيتّسم النظام بطابعٍ اجتماعيٍ مختلط، يجمع بين آليات السوق واعتبارات العدالة الاجتماعية، مستلهمًا فلسفة الدولة التنموية التي تسعى لتحقيق النمو مع الحفاظ على العدالة والتكافل.

لقد أثبت الواقع أن السوق لا يُصلح نفسه بنفسه دائمًا، وأن تدخل الدولة ــ متى كان منضبطًا بالقانون ــ ليس انتقاصًا من الحرية الاقتصادية، بل هو شرط بقائها واستدامتها.

فالدولة هي الضامن الأخير لاستقرار السوق، والحارس الأمين لمبادئ المنافسة المشروعة، والميزان الذي يحفظ العدالة بين القوة الاقتصادية وحق المواطن في العيش الكريم.

ومن ثمّ، يمكن استخلاص التوصيات الآتية:

1. ضرورة تحديث التشريعات الاقتصادية بما يتواءم مع التحولات الرقمية والعولمة التجارية.

2. تعزيز استقلال الأجهزة الرقابية وتوفير مواردها البشرية والفنية.

3. إعلاء مبدأ الشفافية الاقتصادية في القرارات الحكومية التي تمس السوق.

4. توسيع نطاق الحوكمة الاقتصادية لتشمل القطاعين العام والخاص على السواء.

إن الدولة، في النهاية، ليست لاعبًا اقتصاديًا بين غيرها من اللاعبين، بل هي الضامن الأعلى لقواعد اللعبة ذاتها — حامية المنافسة لا منافستها، ومنظِّمة السوق لا مالكته.