افتتاح المتحف المصري الكبير.. لماذا يتجاهل صناع الفن الحضارة المصرية القديمة؟
في الوقت التي يترقب فيها المصريون والعالم أجمع افتتاح المتحف المصري الكبير، الحدث الأكبر الذي جعل «أرض الكنانة» محط أنظار المحب والكاره، للحضارة المصرية القديمة، التي لطالما كانت مادة ثرية للكثير من الأعمال الفنية التاريخية، والتي كان للفن المصري إسهامات بسيطة في تناولها، وصفها البعض بـ«السطحية».
عظمة الحضارة المصرية القديمة التي أحياها افتتاح المتحف المصري الكبير لدى المصريين والعالم أجمع، أثارت تساؤلًا مهمًا في أذهان الكثيرين بشأن تجاهل صناع الفن في مصر، لقصص وحكايات ذلك التاريخ وتلك الحضارة الأعظم، رغم اهتمام الفن العالمي بها؟
إرث حضاري وتجاهل فني
رغم امتلاك مصر إرثًا حضاريًا لأكثر من 7000 عامًا، إلا أن صناع السينما والدراما في مصر لم يُحسنوا استغلاله والترويج السليم له، في الوقت الذي تقدم فيه دولٍ أخرى -تفتقر إلى حضارة مماثلة- أعمالًا ضخمة، تستعرض خلالها ماضيها وتعرف الأجيال بجذورها وتمجد في نفسها.
وفي ظل تخاذل صناع الفن المصري عن تناول الحضارة المصرية العريقة بشكل معمق، تستغل تلك الدول هذا التخاذل وتعمل على التقليل من تاريخ مصر وحضارتها، في الوقت الذي ينتظر فيه المشاهد المصري عمل درامي أو سينمائي يتناول إرثنا التاريخي بشكل جاد ومعمق، يُظهر عظمة الحضارة المصرية القديمة.
السينما العالمية وتزييف التاريخ المصري
رغم اهتمام السينما العالمية بالحضارة المصرية القديمة، فإن أغلب أعمالها لم تقدم التاريخ الحقيقي بل لجأت إلى الأساطير والتحريفات التي اختزلت حضارة تمتد لآلاف السنين في صور من اللعنات والمومياوات الغامضة.
ومن أبرز هذه الأعمال سلسلة "The Mummy" التي بدأت عام 1932 واستمرت عبر نسخ متعددة في الأربعينيات ثم أعادت هوليوود إنتاجها عام 1999 ببطولة براندن فريزر في ثلاثية مغامرات تجارية حققت نجاحًا عالميًا قبل أن تُقدَّم نسخة جديدة عام 2017 من بطولة توم كروز.
ورغم تعدد الأجزاء وتطور التقنيات فإن السلسلة قدّمت الحضارة المصرية في إطار أسطوري وتجاري بعيد عن الواقع التاريخي مركزة على المقابر واللعنات لا على الفكر والعلم الذي ميّز الفراعنة.
كما شهدت السينما الغربية أعمالا أخرى زادت من تشويه الصورة الحقيقية لمصر مثل فيلم «Exodus: Gods and Kings» الذي منع عرضه في مصر بعد أن زعم أن اليهود هم بناة الأهرامات، في طرح يتنافى مع الحقائق الأثرية والعلمية.
وفي السنوات الأخيرة، أثار فيلم «Queen Cleopatra» من إنتاج منصة نيتفلكس غضبًا واسعًا في مصر بعد ترويجه لأفكار ما يُعرف بـ«الأفروسنتريك»، التي ادّعت أن كليوباترا من أصول أفريقية سمراء، وهو ما اعتبره علماء الآثار تزويرًا متعمدًا للتاريخ المصري وسرقة للهوية الحضارية.
الإنتاج المصري... حضور خجول لا يليق بالحضارة
رغم عراقة التاريخ المصري لم تقدم السينما والدراما المصرية سوى محاولات محدودة وغير مكتملة لتجسيد هذه الحضارة العظيمة.
من أبرزها فيلم "عروس النيل" عام 1954 بطولة رشدي أباظة الذي تناول قصة أسطورية تدور في أجواء فرعونية لكنه لم يستند إلى أحداث حقيقية من التاريخ القديم.
كما قدم فيلم "غرام في الكرنك" عام 1967 صورة بصرية جميلة لمعابد الأقصر من خلال الرقص والغناء لكنه لم يتناول التاريخ الفرعوني بعمق أو مضمون درامي عن تلك الحقبة.
أما فيلم "المومياء" عام 1969 للمخرج شادي عبد السلام فيعد من أهم ما قدمته السينما المصرية فنيا إذ تناول قضية الوعي بأهمية حماية الآثار من السرقة والهوية دون أن يروي حياة الفراعنة أو قصصهم التاريخية.
وقد حصد الفيلم جوائز عالمية عدة في المهرجانات الدولية كأحد أعظم الأفلام في تاريخ السينما العربية.
مشاريع طموحة توقفت
وإلى جانب هذه الأعمال ظهرت بعض الأفلام الاخرى وبعض الاعمال التسجيلية والوثائقية التي تناولت الحضارة المصرية القديمة لكنها لم ترتقي لتجذب المشاهد.
«إخناتون»
فيلم «إخناتون» من بطولة محمد صبحي وإخراج المخرج الراحل شادي عبدالسلام، بدأ التحضير له عام 1972 بهدف تقديم رؤية فنية متكاملة لشخصية الملك الفرعوني إخناتون، مع الاهتمام بالماكياج، الملابس، والديكور، لتقديم عمل ملحمي يليق بعظمة الحضارة المصرية.
لم يكتمل الفيلم بسبب ضخامة الميزانية التي بلغت نصف مليون جنيه ورحيل المخرج، ليبقى المشروع الحلم السينمائي الذي لم يتحقق. مؤخرًا، شارك محمد صبحي عبر صفحته الرسمية على «فيس بوك» صورًا من تحضيرات الفيلم وكشف الميزانية الضخمة التي تسببت في توقف المشروع.
«أحمس»
مسلسل «الملك أحمس»، الذي كان من المقرر عرضه في رمضان 2021، توقف بعد جدل واسع حول الهيئة الشكلية وملابس أبطال المسلسل، وخاصة تجسيد شخصية أحمس والدقن التي ظهر بها الفنان عمرو يوسف.
المسلسل مأخوذ عن رواية «كفاح طيبة» للأديب نجيب محفوظ، ويستعرض قصة الملك أحمس وطرده للهكسوس وتوحيد مصر ومن إخراج حسين المنباوي وإنتاج شركة سينرجي.
أعلنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية وقف المسلسل وشكلت لجنة من متخصصين في التاريخ والآثار وعلوم الاجتماع لمراجعة العمل كاملًا، ومنذ ذلك الحين، تم تأجيل عرضه ولم يرَ النور.
بين الحلم والمسؤولية
رغم هذا الغياب، يبقى الأمل قائمًا في أن تستعيد الدراما المصرية دورها التاريخي وأن تقدم أعمالا تليق بالحضارة التي أنارت العالم خصوصا مع هذا الزخم العالمي المصاحب لافتتاح المتحف المصري الكبير؛ فالعالم اليوم ينظر بإعجاب إلى حضارتنا وينتظر أن يراها بعيون مصرية تعيد تقديم التاريخ بروح الفن الحديث وتؤكد أن مصر لا تملك فقط آثارا خالدة بل تمتلك أيضًا صُنّاع فن قادرين على سرد حكايتها للعالم كله.
ومن جانبه قال الدكتور مجدي شاكر كبير الآثاريين عن عدم اهتمام الدراما بالتاريخ المصري القديم وقال "لقد تحدثنا من قبل وقلنا إن الفن المصري للأسف لا يعكس حضارتنا بشكل حقيقي".
وأوضح في تصريحات لـ«النبأ"»، أن الفيلم الوحيد الذي قيل إنه عن التاريخ المصري هو «المومياء» مع أنه لا علاقة له بالحضارة الفرعونية إذ ركز كل ما تحدث فيه على تسليط الضوء على سرقة الآثار وقصة قديمة ومعروفة عن سرقة المومياوات فلا علاقة له بالحضارة الفرعونية مطلقا.
وأشار "ليس لدينا سوى فيلم واحد قدمته آسيا عن كليوباترا والفيلم لم يحقق شهرة وبالتالي فإن الفن في مصر بعافية ولم ننتج شيئا يعكس الحضارة الحقيقية وكل ما أنتجناه كان عن الفن مثل أغنية العزبي "حاتشبسوت ياحتشبسوت قفلو عليكي ياحلوة تابوت" وبالتالي الفن لم يكرم أي حضارة لا مصرية قديمة ولا إسلامية ولا قبطية ولا أي حضارة"
وأضاف "كنت تحدثت من خلالكم في النبأ من قبل وطرحت أن يتم إنتاج فيلم مثل "الممر" أو "الاختيار" الجزء الرابع يعيدنا إلى أيام رمسيس وتحتمس وأن يكون باسم "الاختيار" ويمكن أن تتوالى الأعمال التاريخية لكن للأسف لم يحدث ذلك.
حتى مسلسل "أحمس "الذي أنتجته الشركة المتحدة لم يستمع القائمون فيه لرأي المتخصصين وبعد أن صرفوا عليه نحو 70 مليون جنيه فشل المسلسل وتوقف بعد تصوير نسبة كبيرة منه ونحن للأسف لا نقدم الفرص للأخصائيين رغم مطالباتنا المتكررة"
وتابع "يمكن أن نقدم دراما مثل قصة سائح فرنسي يدخل معبد حتشبسوت وهي تستيقظ وتقابله وتاخذه إلى عصرها وتنشأ قصة حب بينهم، وتحكي له عن طفولة تحتمس الثالث وعن بعثتها وجولاتها، وهي سبدة جميلة وتتحدث عن حرمانها من زوجها في سن صغيرة وقصتها العاطفية البسيطة معه بحيث تكون دراما مشوقة".
وتابع كبير الأثاريين: "قصة إيزيس وأوزوريس لو كانت موجودة في الأساطير اليونانية لتم إنتاج 100 فيلم عنها والغرب استلهم أعمال من التاريخ المصري وأضافوا رؤيتهم الخاصة وغيروا فيها كثيرًا".
وأضاف مجدي شاكر: «أتمنى أن يكون لدينا أعمال من الأدب المصري مثل روايات نجيب محفوظ "عبث الأقدار" و"كفاح طيبة" و"رابوديس" فالكاتب نجيب محفوظ كان دارسا للتاريخ والجمهور لا يعرف أنه كان يترجم كتبا أثرية وكان له علاقة بالراحل سليم حسن وهو شخصية مهمة جدا».
وأشار «شاكر»، إلى أنه يجب أن تتعاون القوات المسلحة ووزارة الثقافة ووزارة السياحة والشركة المتحدة لإنتاج أعمال تاريخية كما كان في السابق نختاج فقط فيلم كل سنتين عن الحضارة القديمة وليس شرطا ان يكون أثريًا.
واختتم مجدي شاكر حديثه في هذا الشأن، قائلًا: «نتمنى أن تكون هناك صحوة فنية وأن ننتج أعمالًا عن حضارتنا المصرية العريقة عن شخصيات مثل توت عنخ آمون وتحتمس فلدينا الكثير لنقدمه».
ارتفاع تكلفة الإنتاج
ومن الجانب الفني، قال الفنان والمرشد السياحي محمد خميس، إن السبب الرئيسي في غياب الدراما عن الأعمال التاريخية هو ارتفاع التكلفة الإنتاجية والمجهود الكبير المطلوب لتنفيذها موضحًا أن هذه التكلفة والمجهود لهما مردود مادي ومعنوي وأدبي عالي جدا إذا أنجز العمل بجدية وإتقان
وأضاف في تصريحاته لـ«النبأ» أن المنتج يرى أن المجهود والتكلفة المبذولة في مسلسل تاريخي واحد يمكن أن تنتج بها حوالي 6 مسلسلات معاصرة لذلك يتجنب الدخول في هذا النوع من الأعمال مشيرا إلى أن المنتج الذي يتصدى لمثل هذه المهمة يجب أن يكون ذا توجه ثقافي وواع بدوره الفني كما حدث أثناء إنتاج فيلم الناصر صلاح الدين أو أن يكون هناك دعم من الدولة
وتابع قائلا ندرك أن توجه الدولة يسير نحو تقليل التكاليف بسبب الأزمة الاقتصادية لكن يمكنها أن تدعم دون إنفاق مباشر من خلال تقديم دعم لوجستي وتسهيل الإجراءات لأن تصاريح التصوير أصبحت كثيرة وبيروقراطية ويجب تبسيطها خاصة للأعمال التي تتناول الحضارة المصرية القديمة
وأكد خميس أن التكاليف في بعض الأحيان مبالغ فيها والإجراءات مليئة بالبيروقراطية ما يدفع شركات الإنتاج العالمية إلى تصوير أعمالها في المغرب أو الأردن أو بعض دول الخليج بدلًا من مصر فيفقدنا ذلك فرصا ومكاسب سياحية وثقافية كبيرة.
وأشار إلى أن بعض الموظفين ينظرون تحت أقدامهم ولا يدركون أن الأعمال التاريخية المستوحاة من التاريخ المصري تسهم في تنشيط السياحة وجذب الأنظار إلى مصر وتشجع الناس على زيارتها مضيفًا في دول مثل تركيا قدموا عملين أو ثلاثة فقط عن فترات تاريخية محدودة ومع أن تاريخهم أقل من تاريخ مصر إلا أن السياحة هناك تغيّرت بفضل هذه المسلسلات لأنها صنعت بجدية وصدق.

وأعرب خميس عن أمله في أن يكون هناك دعم حقيقي للأعمال التاريخية خاصة مع النهضة الأثرية والسياحية التي تشهدها مصر حاليا مؤكدًا أن لدينا صناع فن كبارا قادرين على المنافسة عالميًا من مخرجين وممثلين وفنيين في الإضاءة والصوت والمونتاج والتصوير لكن المشكلة في الإنتاج والاستسهال مضيفًا الاستسهال يمكن أن يمر في الأعمال المعاصرة لكنه لا يصلح في الأعمال التاريخية التي يجب أن تقدَّم بجدية.
وعن فيلم عروس النيل وأزمة فكرة التضحية بالفتيات قال خميس إن هذه فانتازيا ولكن يجب أن تكون هناك مسؤولية فنية تجاه التاريخ في الأعمال المستوحاة منه فهناك أحداث كبرى لا يجوز المساس بها مثل انتصار المماليك على التتار في موقعة عين جالوت فهي وقائع ثابتة ومتفق عليها بين المؤرخين بينما هناك وقائع أخرى يختلف حولها التاريخ ومن حق صانع الدراما تناول وجهة النظر التي يراها مناسبة.
وأضاف، أما الوقائع التي لم يذكرها التاريخ تفصيلًا مثل قصة لقاء نجم الدين أيوب بشجر الدر فهنا يتاح للمبدع حرية التخييل بينما في الأعمال الفانتازية يكون صانع الدراما حرا تماما لأنه يقدم رؤية خيالية لكن تبقى المشكلة في أن الدراما تترك صورة ذهنية راسخة لدى الجمهور فعلى سبيل المثال ما زال الكثيرون يتخيلون صلاح الدين الأيوبي في هيئة الفنان أحمد مظهر وهذا يحمّل صانع الدراما مسؤولية كبيرة فالعمل الجاد الملتزم بالمعايير دون تحريف للتاريخ إلا للضرورة الدرامية سيحظى بجماهيرية دون أن يرسخ مفاهيم مغلوطة.
وقال خميس، إنه مع افتتاح المتحف المصري الكبير والحراك في شعور المصريين بانتمائهم لحضارتهم ومع وضوح رؤية الدولة في ترسيخ هذا الانتماء أتمنى أن نهتم بتاريخ المصريين القدماء ونقدمه في الدراما بدعم من الدولة وأن يُسند إلى صناع لديهم مصداقية ولا يلجأون إلى الاستسهال
وأضاف هناك شخصيات كثيرة أتمنى أن تُقدَّم دراميًا مثل الكاهن آي ورمسيس الثاني الذي يثار حوله جدل كبير وله زخم درامي واسع وتحتمس الثالث أول إمبراطور في التاريخ وحتشبسوت إحدى أعظم النساء في التاريخ والملكة ميرت نيت أول من جلست على العرش في تاريخ البشرية وسنفرو أبو خوفو وبسماتيك الأول الذي أعاد هيبة مصر ورمسيس الثالث الذي انتصر على شعوب البحر ثم قُتل على يد إحدى زوجاته بمساعدة آخرين.
وتابع كما لدينا شخصيات عظيمة مثل القائد وني أول من قاد جيشا بريا وبحريًا في آن واحد والرحالة حارخوف أول من استكشف الجنوب بأمر من الملك مرر رع الأول إلى جانب قصة بيخ وسابني الرائعة التي تجسد قيم الأبوة والوطن والصداقة وتشبه قصة فيلم شمس الزناتي ولكن بروح مصرية قديمة
وأضاف ولا ننسى إمحوتب العبقري الذي أحدث ثورة في الهندسة والطب والفلك وأمنحتب بن حابو المهندس والطبيب والمستشار وحسي رع أول طبيب أسنان في التاريخ وغيرهم كثير من الشخصيات التي لو بدأنا الحديث عنها فلن ننتهي.
أما عن مسلسل الملك أحمس للفنان عمرو يوسف فقال خميس المشكلة لم تكن في اللحية فقط كان يمكن تبريرها دراميًا بأنه متخفي لكن لا يجوز ظهور سقنن رع والد أحمس باللحية بهذه الصورة فالبرومو الذي عرض ومدته دقيقتان احتوى على نحو 8 أخطاء واضحة بعضها جسيم جدا ولذلك كان من الصعب عرضه بهذا الشكل.
واختتم خميس تصريحاته مؤكدًا أن أزمة مسلسل أحمس كانت ناتجة عن الاستسهال في الصناعة مشددا على أن الصورة الذهنية التي تصنعها الدراما تبقى في أذهان الناس وأن الأعمال التاريخية الجادة التي تراعي الدقة والاحترام ستظل أكثر الأعمال تأثيرا وخلودا في وجدان الجمهور
الدكتور مجدي شاكر كبير الأثريين







