رئيس التحرير
خالد مهران

الدكتور أحمد صفوت السنباطي يكتب: أمن المياه في الوطن العربي.. التهديدات الصامتة القادمة من الجنوب

الدكتور أحمد صفوت
الدكتور أحمد صفوت السنباطي بمحكمة النقض

تشهد قضية المياه في الوطن العربي تحولًا تدريجيًا من أزمة بيئية إلى تهديد استراتيجي صامت، يتسلل من الجنوب في ظل تزايد الضغوط السكانية، والتغيرات المناخية، والتدخلات الجيوسياسية في منابع الأنهار الكبرى. 

 

ويأتي هذا التهديد في وقت يعاني فيه العالم العربي من ندرة مائية حادة، حيث تُعد المنطقة من بين أكثر مناطق العالم جفافًا، ويعتمد جزء كبير من دولها على مصادر مياه خارج حدودها الجغرافية، ما يجعل الأمن المائي العربي مرتهنًا لسياسات دول الجوار غير العربية، خاصة في إفريقيا.


تُعد أزمة سد النهضة الإثيوبي أحد أبرز تجليات هذا التهديد، إذ تشكل مثالًا صارخًا على تعقد العلاقات المائية بين دول المنبع والمصب، وعلى رأسها إثيوبيا ومصر والسودان، فقد أدى مشروع السد إلى حالة من التوتر الاستراتيجي بين الأطراف الثلاثة، مع استمرار أديس أبابا في فرض سياسة الأمر الواقع بشأن تعبئة وتشغيل السد دون اتفاق ملزم، مما يهدد الحصة التاريخية لمصر من مياه النيل، ويضع السودان أمام خيارات مائية وأمنية شديدة الحساسية وتثير هذه الأزمة تساؤلات جوهرية حول قدرة الدول العربية على حماية أمنها المائي في ظل ضعف آليات الردع الإقليمي وتشتت المواقف العربية.


لكن التهديد لا يقتصر على النيل فقط، بل يمتد إلى نهري دجلة والفرات، حيث تعاني كل من سوريا والعراق من انخفاض حاد في تدفقات المياه نتيجة السدود التركية والإيرانية، ما أدى إلى تدهور كبير في الأراضي الزراعية، ونزوح سكاني متزايد، واحتقان سياسي داخلي، قابل للاستثمار من قبل قوى محلية وخارجية كما أن التحولات المناخية، وارتفاع درجات الحرارة، وتكرار موجات الجفاف، عمّقت من أزمة المياه الجوفية، وأثرت على استدامة الأحواض المائية في المغرب العربي، خاصة في تونس والجزائر والمغرب.


وتزداد خطورة هذه التهديدات حين تقترن بعدم وجود اتفاقيات ملزمة لتقاسم المياه مع دول المنبع، أو بضعف قدرة المؤسسات العربية على التفاوض ككتلة واحدة، كما أن التعامل مع ملف المياه لا يزال محصورًا في الجوانب الفنية أو البيئية في كثير من الدول، دون إدراك كافٍ لكونه ملفًا سياسيًا واستراتيجيًا، لا يقل أهمية عن قضايا الحدود أو الأمن القومي.


في المقابل، بدأت بعض الدول العربية في تطوير استراتيجيات لتقليل الاعتماد على المصادر التقليدية، من خلال تحلية مياه البحر، وإعادة تدوير المياه، واستيراد المياه الافتراضية عبر المنتجات الزراعية، لكن هذه الحلول لا تزال مكلفة ومحدودة الأثر، ولا يمكن أن تكون بديلًا طويل الأمد عن الوصول العادل والمستدام إلى مياه الأنهار العابرة للحدود.


إن التهديدات المائية القادمة من الجنوب ليست فقط مسألة حياة يومية، بل باتت تمثل عنصرًا حاسمًا في حسابات الأمن القومي العربي، ومرتبطة بشكل مباشر بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي،ومن دون بناء موقف عربي موحد، وتفعيل أدوات الضغط الدبلوماسي، والاستثمار في حلول تكنولوجية وسياسية واقعية، فإن المنطقة قد تتجه نحو موجات جديدة من النزاعات المرتبطة بالمياه، أكثر خطورة من النزاعات التقليدية، لأنها تتعلق بعصب الحياة ذاته.