المستشار وليد عز الدين يكتب: جريمة التلاعب بالبورصة في القانون المصري

لم تعد البورصة مجرد ساحة لتداول الأوراق المالية، بل أصبحت مرآة تعكس واقع الاقتصاد واتجاهات المستثمرين وثقتهم في مستقبل الدولة. ومع تنامي دور أسواق المال في تعبئة المدخرات وتوجيهها نحو الاستثمار، نشأت ممارسات غير مشروعة تهدد الكيان المؤسسي لهذه الأسواق، أبرزها جريمة التلاعب بالبورصة.
تتسم هذه الجريمة بخطورة مزدوجة؛ فهي من جهة تمسّ قواعد الشفافية والمنافسة العادلة، ومن جهة أخرى تؤثر سلبيًا على الاستقرار المالي والاقتصادي للدولة. ومن ثم، حرص المُشرّع المصري على مواجهتها بتشريعات صارمة، وأفرد لها القضاء معايير دقيقة للفصل في منازعاتها.
أولًا: الإطار المفاهيمي لجريمة التلاعب في البورصة
1.1. المفهوم القانوني
التلاعب في البورصة هو كل سلوكٍ مُتعمدٍ يصدر عن شخص طبيعي أو اعتباري بهدف خلق صورة غير واقعية عن سعر أو حجم أو اتجاه ورقة مالية، مما يؤدي إلى تضليل باقي المتعاملين وتحقيق منافع غير مستحقة.
ويتميز هذا السلوك بأنه:
ينطوي على تحايل منهجي لإعادة تشكيل السوق بشكل مُصطنع.
يخرق مبدأ المساواة في الحصول على المعلومات.
يؤدي إلى إفساد آليات العرض والطلب الطبيعيين.
1.2. الطبيعة القانونية للجريمة
تُعد جريمة التلاعب من الجرائم الاقتصادية ذات الطابع المالي المُركب، إذ ترتبط بالسوق والتداول والمعلومات، وقد تكون جريمة قائمة بذاتها أو مرتبطة بجرائم أخرى مثل غسل الأموال أو استغلال المعلومات الداخلية.
ثانيًا: الأركان القانونية لجريمة التلاعب
2.1. الركن المادي
يتمثل في القيام بفعل أو مجموعة أفعال من شأنها التأثير على السوق، مثل:
إبرام صفقات صورية.
تكرار الأوامر لتوجيه الأسعار.
نشر بيانات مغلوطة.
استغلال معلومات غير متاحة للجمهور.
2.2. الركن المعنوي
يتحقق بتوافر القصد الجنائي العام والخاص، أي:
العلم بأن التصرف مخالف لأحكام السوق.
نية التأثير على سعر الورقة المالية أو خداع المتعاملين.
2.3. الركن المُفترض: السوق المُنظمة
لا تقع الجريمة إلا في إطار سوق مالية مُنظمة خاضعة لرقابة الدولة، سواء كانت بورصة محلية أو منصة مرخصة.
ثالثًا: صور التلاعب وفقًا للتشريعات المصرية
حدد المُشرّع المصري صورًا متعددة للتلاعب، أبرزها:
3.1. الصفقات الوهمية
إبرام اتفاقات لبيع وشراء دون نقل حقيقي للملكية، بقصد خلق انطباع زائف بوجود نشاط على الورقة.
3.2. نشر معلومات كاذبة أو مُضللة
سواء عبر الإعلام أو عبر منصات التداول أو تقارير الشركات، للتأثير على اتجاه السوق.
3.3. التداول بناءً على معلومات داخلية
المعروف باسم Insider Trading، أي استغلال معلومات سرية قبل إعلانها لتحقيق أرباح.
3.4. تنسيق الأسعار بين مجموعات
تواطؤ مُمنهج بين متعاملين لرفع أو خفض الأسعار بشكل صناعي.
رابعًا: الإطار التشريعي لجريمة التلاعب
4.1. قانون سوق المال رقم 95 لسنة 1992
المادة 63: تُجرم كل فعل ينطوي على تضليل السوق، وتنص على عقوبة الحبس والغرامة المُضاعفة بما يتناسب مع قيمة الربح غير المشروع.
المادة 21: تُخول لرئيس البورصة أو الهيئة إلغاء أو وقف العمليات المشبوهة.
المادة 49: تمنح صفة الضبطية القضائية لبعض موظفي هيئة الرقابة المالية للتحقيق في هذه الجرائم.
4.2. علاقة التلاعب بجرائم أخرى
إذا اقترنت الجريمة بتحقيق أرباح أُدخلت في النظام المصرفي، قد تُكيّف كجريمة غسل أموال (قانون رقم 80 لسنة 2002).
إذا اقترنت بتضليل جماعي، قد تندرج ضمن جرائم النصب والاحتيال المُنظم.
خامسًا: الاختصاص القضائي ونطاق المحاكمة
بموجب القانون رقم 120 لسنة 2008 أُنشئت المحكمة الاقتصادية لتختص بالنظر في الجرائم الاقتصادية، ومنها التلاعب بالبورصة. ويتميز هذا الاختصاص بـ:
قضاة متخصصين في الشؤون المالية والتجارية.
سرعة في الإجراءات.
اعتماد كبير على التقارير الفنية وخبراء السوق.
سادسًا: اجتهادات القضاء المصري
أرست محكمة النقض مبدأ مهمًا حيث قضت بأن: "مجرد الخسارة أو الربح في عملية تداول لا يُعد تلاعبًا، إلا إذا اقترنت العملية بأدلة على تعمد التأثير غير المشروع في السوق، وثبوت القصد الجنائي."
كما قضت محاكم أول درجة بعدة أحكام بالإدانة على أساس تحليل بيانات التداول وتطابقها مع صور التلاعب، ما يُعزز الاتجاه القضائي المُتشدد في التصدي للجريمة.
سابعًا: الأثر الاقتصادي والاجتماعي لجريمة التلاعب
لا تنحصر آثار التلاعب في النطاق المالي فحسب، بل تمتد لتشمل:
زعزعة ثقة المستثمرين المحليين والأجانب.
انهيار آليات التسعير العادل.
تعطيل دور البورصة كوسيلة لتمويل الاقتصاد.
تعزيز بيئة خصبة لغسل الأموال والتمويل غير المشروع.
ثامنًا: مقترحات للإصلاح وتوصيات تشريعية
تطوير وسائل المراقبة الفنية من خلال الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الكبيرة.
تعديل تشريعي واضح لتعريف التلاعب وصوره لتقليل مساحة التأويل.
تعزيز دور هيئة الرقابة المالية ومنحها صلاحيات استباقية.
إصدار دليل توجيهي للمستثمرين حول السلوكيات المشروعة وغير المشروعة.
تشجيع الصحافة الاقتصادية المُتخصصة على كشف الممارسات المشبوهة وتحليلها.
وأخيرًا تُجسد جريمة التلاعب بالبورصة أحد أبرز التحديات التي تواجه العدالة السوقية في الاقتصاد المصري. وهي جريمة مُركبة تتطلب تكاملًا بين التشريع، والرقابة، والقضاء، والوعي العام. ومن هنا، فإن تطوير الإطار القانوني وتحديث آليات الكشف والضبط يُعدان ضرورة لا ترفًا، للحفاظ على استقرار السوق وتعزيز الثقة في مناخ الاستثمار المصري.