عادل توماس يكتب: السلاح الأبيض خطر صامت يهدد المجتمع ويتطلب حسمًا أمنيًا وتشريعيًا

في مشهد عبثي يتكرر في شوارعنا يوميًا، وقعت مؤخرًا مشادة كلامية بسيطة بين سائق سيارة وأحد سائقي "التوك توك" في أحد أحياء القاهرة، ليتحول الجدال في لحظات إلى كابوس، بعدما أشهر سائق التوك توك ويدعى "شهاب" مفك في وجه السائق الآخر مهددًا إياه وسط ذهول المارة، الواقعة التي وثقها شهود عيان بهواتفهم المحمولة، وانتهت دون دماء، كانت يمكن أن تُسجل كجريمة قتل جديدة تُضاف إلى قائمة الضحايا في سجل السلاح الأبيض بمصر.
هذا المشهد ليس استثناءً، بل أصبح انعكاسًا لواقع خطير يتصاعد يومًا بعد يوم، حيث باتت الأسلحة البيضاء تمثل خطرًا صامتًا يهدد أمن الأفراد واستقرار الشارع، فبينما تُستخدم المطاوي والسكاكين في جرائم قتل وسرقة وبلطجة وترويع، تظل الردود الأمنية والتشريعية أقل من أن تواكب اتساع الظاهرة وخطورتها.
وفي ظل تصاعد موجات العنف المجتمعي في مصر خلال السنوات الأخيرة، باتت الأسلحة البيضاء تمثل خطرًا صامتًا يهدد أمن الأفراد واستقرار الشارع، فبينما تُستخدم المطاوي والسكاكين في جرائم قتل وسرقة وبلطجة وترويع، تظل الردود الأمنية والتشريعية أقل من أن تواكب اتساع الظاهرة وخطورتها.
من الشارع إلى الحرم الجامعي
لم يعد حمل السلاح الأبيض مقتصرًا على أصحاب السوابق أو الخارجين عن القانون، بل تسلل تدريجيًا إلى أوساط مختلفة في المجتمع، بدءًا من الأحياء الشعبية والقرى، ووصولًا إلى المدارس والجامعات والأندية الرياضية، مشاجرات بسيطة تتحول في لحظة إلى جرائم قتل، وسوء تفاهم قد ينتهي بطعنة في القلب أو الرقبة، دون أن يتاح وقت للتفكير أو التراجع.
حوادث متكررة تنذر بالخطر
في حلوان، شهدت المنطقة واقعة اختطاف شاب داخل "توك توك" تحت تهديد السلاح الأبيض، وفي سيدي بشر طُعن شاب حتى الموت بسبب خلاف تافه على أولوية المرور، أما في المطرية فقد قُتل مواطن بعد خلاف على ركن دراجة هذه أمثلة تتكرر يوميًا في ربوع الجمهورية، وتكشف عن مدى خطورة ترك الشارع المصري مفتوحًا أمام من يشاء أن يحمل سكينًا أو مطواة.
لماذا ينتشر السلاح الأبيض؟
تعود أسباب تفشي هذه الظاهرة إلى عدة عوامل، في مقدمتها سهولة اقتناء السلاح الأبيض، إذ تُباع السكاكين والمطاوي في الأسواق الشعبية دون أدنى رقابة، وتُعرض في واجهات المحال كما لو كانت أدوات منزلية عادية، كما أن ضعف الردع القانوني يجعل حيازة هذه الأدوات جريمة قابلة للتأويل، إذ يتطلب القانون إثبات نية استخدامها في جريمة، وهو أمر يصعب عمليًا على جهات الضبط والإثبات، يضاف إلى ذلك غياب الوعي المجتمعي، وغياب ثقافة التسامح، وتنامي شعور عام بأن أخذ الحق باليد أفضل من اللجوء إلى القانون.
المدارس والجامعات في مرمى السلاح
ولا تقتصر خطورة هذه الظاهرة على الشارع فقط، بل امتدت إلى المؤسسات التعليمية، حيث رُصدت خلال السنوات الأخيرة حوادث متكررة لحيازة طلاب في مراحل دراسية مختلفة لأسلحة بيضاء داخل المدارس والجامعات، سواء للتفاخر أو التهديد أو الاستخدام الفعلي في المشاجرات، وفي بعض المدارس أصبح من المعتاد ضبط أدوات حادة في حقائب الطلبة أثناء التفتيش المفاجئ أما في الجامعات فقد شهدت بعض الحرم الجامعي حوادث طعن مأساوية أودت بحياة طلاب في ريعان شبابهم، كما حدث في كفر الشيخ والمنصورة وحلوان.
الأندية.. ساحات العنف الجديدة
وإذا كانت المؤسسات التعليمية مهددة من الداخل، فإن الأندية الرياضية والاجتماعية لم تكن بمنأى عن هذا الخطر، فقد شهدت بعض الأندية الكبرى مشاجرات عنيفة تطورت إلى استخدام الأسلحة البيضاء، بسبب خلافات تافهة على اللعب أو النقاش، بعض الشباب يدخلون النوادي حاملين أسلحة في جيوبهم، دون أن يخضعوا لأي تفتيش أو رقابة، وتحدث الاشتباكات داخل صالات الألعاب أو ساحات كرة القدم، فيتحول مكان يفترض أن يكون آمنًا إلى مسرح دموي.
حملات أمنية.. لكنها موسمية
وتبذل الأجهزة الأمنية جهدًا ملموسًا في تنظيم حملات لضبط حائزي السلاح الأبيض، خاصة في محيط الأسواق والمدارس والمواقف، لكن هذه الحملات غالبًا ما تكون موسمية أو كرد فعل بعد وقوع حادث مؤلم، بينما تحتاج القضية إلى استراتيجية مستدامة، لا تنقطع، تبدأ من التشريع وتمر بالضبط الأمني ولا تنتهي إلا بالتغيير الثقافي.
ثغرة تشريعية بحاجة لإغلاق
ويبرز في هذا السياق غياب نصوص قانونية حاسمة تجرم الحيازة بشكل مطلق، فالقانون الحالي يشترط إثبات نية الاستخدام في ارتكاب جريمة، وهو ما يمنح حامل السلاح فرصة للتهرب من المسؤولية بحجة "الدفاع عن النفس" أو "حمله للاحتياط"، لذا بات من الضروري تعديل التشريعات القائمة، وتجريم الحيازة دون مبرر مشروع، وفرض عقوبات مغلظة تشمل الحبس والغرامة والمصادرة الفورية.
الرقابة والتفتيش ضرورة مؤسسية
وفي الوقت ذاته، على المؤسسات التعليمية والرياضية والاجتماعية أن تفرض قواعد صارمة للرقابة، تشمل التفتيش، وتركيب بوابات كشف المعادن، وربط سلوك العضو أو الطالب باستمراره في المؤسسة، ويجب أن تُمنح الشرطة المدرسية والجامعية صلاحيات حقيقية في التفتيش والتدخل، على أن تصاحب هذه الإجراءات حملات توعية واسعة تستهدف الطلاب والشباب، وتغرس فيهم قيم احترام القانون ونبذ العنف.
دور الإعلام في إعادة تشكيل الوعي
أما الإعلام، فعليه أن يتحمل مسؤوليته في وقف الترويج غير المباشر لثقافة السلاح والعنف، التي تكرّسها بعض الأعمال الدرامية والسينمائية، لا بد من إعادة تشكيل صورة القوة في أذهان الشباب، لتقوم على الانضباط واحترام القانون، لا على البلطجة وحمل السلاح.
منبر المسجد ومنبر الكنيسة.. خطاب ديني يردع العنف
في خضم هذه المعركة المجتمعية، لا يمكن إغفال الدور الكبير الذي يجب أن يقوم به رجال الدين في المساجد والكنائس، باعتبارهم حُرّاسًا للقيم، وموجهين للضمير الجمعي، الخطاب الديني القائم على الدعوة إلى السلم ونبذ العنف وتعظيم حرمة الدم، قادر على التأثير العميق في سلوك الأفراد، خاصة في المجتمعات التي تمنح المنبر مكانة خاصة.
رجال الدين المسلمون مطالبون بأن يجعلوا من خطب الجمعة منابر توعية مستمرة ضد استخدام القوة والبطش، وأن يُبيّنوا أن القتل العمد، حتى لو بدافع الغضب، جريمة عظيمة في الإسلام، تفتح أبواب النار وتستوجب لعنة الله، كما يجب على الخطباء أن يُنبهوا إلى خطورة حمل السلاح الأبيض حتى دون نية استخدامه، باعتباره مدخلًا للفتنة وإراقة الدماء.
كذلك فإن رجال الكنيسة، من القساوسة والكهنة، يمكنهم من خلال عظات الأحد، وإجتماعات الشباب، أن يُرسّخوا قيم السلام الداخلي، والتسامح، والحوار، وأن يُبرزوا خطورة اللجوء إلى العنف كوسيلة لحل الخلافات، مستندين إلى التعاليم المسيحية التي تُدين القتل وتدعو لرد الإساءة بالمغفرة.
المؤسسات الدينية، بتنسيقها مع وزارتي الأوقاف والشؤون الدينية، قادرة على إطلاق حملات توعية مشتركة في القرى والمدن، بالتعاون مع الإعلام والمؤسسات التعليمية، بهدف تجفيف منابع الفكر العدواني، وقطع الطريق على ثقافة "الدم بالدم".
الأسرة والمدرسة.. جبهة الدفاع الأولى
الأسرة والمدرسة والنادي والشارع والقانون، جميعها جبهات في معركة واحدة: معركة حماية المجتمع من الانفلات، وردع كل من تسوّل له نفسه أن يحمل سلاحًا يُهدد به حياة الآخرين، إن السلاح الأبيض ليس مجرد أداة، بل هو قنبلة موقوتة في جيب كل من لا يعرف قيمة الحياة، ومنع الجريمة يبدأ بمنع هذه الأدوات من الانتشار، وتأكيد أن المجتمع القوي لا يُحكم بالسكاكين، بل بالقانون.