حكايات من الدم والحديد..
حين تتحول الطرقات إلى مجازر مفتوحة بسبب الشاحنات ومافيا النقل الثقيل

لم يكن حادث دائري المنوفية الذي راح ضحيته عدد من الفتيات الشابات هو الأول.. ولن يكون الأخير، في مشهد مأساوي، انقلبت شاحنة نقل ثقيل فوق سيارة خاصة، كانت تقل مجموعة من الفتيات في طريق عودتهن إلى المنزل، سُحقت الأجساد، وتحوّلت الرحلة إلى كابوس لم ينتهِ بوقف الحركة على الطريق، بل بوقف قلوب أمهات انتظرن عودتهن بلا جدوى، لكن هذا الحادث لم يكن استثناءً.
في مصر، باتت شاحنات النقل الثقيل كوابيس متحركة، تهدد حياة المواطنين على الطرق السريعة والداخلية على حد سواء، مركبات عملاقة تسير بلا ضابط ولا رادع، في ظل تواطؤ بعض المسؤولين، وفساد إداري، ونظام رقابي هشّ.
من الكريمات إلى الدائري الأوسطي، ومن السويس إلى المنوفية، المشاهد تتشابه، والنتائج تتكرر، شاحنة مسرعة، حمولة زائدة، سائق بلا تدريب، ودماء تفرش الطريق، هذا التحقيق يغوص في عمق الكارثة، ويكشف بالأرقام والشهادات كيف تحوّل ملف النقل الثقيل في مصر إلى مأساة وطنية متكررة، من هم المتورطون؟ من يتستر؟ ولماذا تظل الطرقات تنزف بلا نهاية؟
مأساة الكريمات: كلهم ماتوا
18 راكبًا في ميكروباص، معظمهم من العمال العائدين إلى منازلهم بعد يوم شاق لم يتخيلوا أن طريق العودة سيكون آخر ما يرونه في حياتهم، حسب تحقيقات النيابة، فإن شاحنة محمّلة بالرمال فقد سائقها السيطرة بسبب السرعة الجنونية، لتسحق المركبة بالكامل، والنتيجة لا ناجين، وجثث محطمة، وأطفال ونساء ضمن الضحايا.
السويس: السير عكس الاتجاه يقتل أسرة
شاحنة نقل ثقيل تسير عكس الاتجاه على طريق السويس - القاهرة. تصطدم بسيارة ملاكي الأسرة بأكملها تفنى، والسائق يفر، والشركة المالكة "غير مسجلة".
في منتصف الليل، شاحنة تخرج عن مسارها، تصطدم بخمس سيارات، والنتيجة 6 قتلى، و11 مصابًا، وتحطيم كامل للمركبات.
الأرقام لا تكذب.. مصر تنزف حسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2023)، ثلث الحوادث المسجلة في مصر تتورط فيها شاحنات نقل ثقيل، وأكثر من 2400 قتيل سنويًا بسبب هذه الشاحنات وحدها، والخسائر المادية المباشرة من الحوادث تُقدَّر بـ 4.2 مليار جنيه سنويًا.
وفي دراسة أجراها "المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية"، تبيّن أن "60% من سائقي النقل الثقيل يعملون بلا تدريبات مهنية، وقرابة 35% منهم لا يحملون رخصة قيادة سارية أو سليمة قانونيًا."
مافيا النقل الثقيل.. دولة داخل الدولة
وراء كل حادث، تتوارى منظومة ضخمة من الفساد والإهمال، تُعرف في الأوساط اللوجستية بـ "مافيا النقل الثقيل"، من هم؟ وكيف يعملون؟
السائق: بلا رخصة.. بلا تدريب
في شهادة سائق لأحد البرامج التلفزيونية ما معيش رخصة أصلًا.. بشتري واحدة بـ1500 جنيه من مكتب خدمات، والمرور عارف، بس بتدفع وخلاص."
الورش غير الشرعية
في مناطق مثل صفط اللبن والبراجيل والخصوص، تنتشر ورش تعديل غير مرخصة، تُحوّل الشاحنات إلى "وحوش طرق"، تزيل حدود الحمولة، وتزوّد قوة المحرك بشكل غير آمن.
نقاط الميزان.. للبيع
نقاط الميزان المخصصة لقياس الحمولة صارت، وفق شهادات عديدة، "كارتة فساد" "عايز تعدي؟ ادفع 300 جنيه للميزان، ومحدش هيفتح شنطة العربية." والموظفون، في كثير من الأحيان، يتقاضون رشاوى دورية لتجاهل الحمولة الزائدة، والفساد المؤسسي.
رقابة مغيبة ومساءلة غائبة
حين تسأل "من المسؤول؟"، تجد الجميع يتنصّل، وزارة النقل تقول "نحن جهة تنظيم لا تنفيذ" بلا صلاحيات رقابية فعلية، وهيئة الطرق تأكد "نرصد المخالفات" معظم الموازين معطلة أو فاسدة، والمرور "نُطبق القانون" الرقابة ضعيفة.. الرشوة منتشرة، والمحليات "نُصدر تصاريح فقط" تصاريح عشوائية وورش غير مرخصة.
الجهات الرقابية، عام 2022، اشتكت من غياب التنسيق بين الجهات، وتحصّن بعض الشركات بنفوذ سياسي، وقصور تشريعي في التعامل مع المخالفات.
الضحايا.. دماء على الإسفلت
قصص الضحايا تكشف حجم المعاناة الإنسانية: أم محمد – بني سويف "ابني راجع من الشغل.. شاحنة طارحة على الميكروباص، ورجعولي جثته متفحمة.. والسواق هرب ومحدش سأله فينا."
طفل الجيزة
دهسته شاحنة أثناء لعبه أمام منزله، والشاحنة دون لوحات، والسائق لم يُقبض عليه.
عائلة السويس
انقلبت شاحنة مقطورة على سيارة كانت تقل عائلة من 6 أفراد، والجميع مات، ومحامي الشركة قرر " ان الشركة ليست مسؤولة.. والسائق تصرّف فردي"، وبهذه الطريقة الغالبية لا يحصلون على تعويضات، والشاحنات غير مؤمّن عليها، ما يترك الأسر في مواجهة الموت والفقر معًا.
تشريعات قديمة.. وشركات فوق القانون
قانون المرور الحالي لا يواكب حجم الأزمة، حيث إنه لا يشترط وجود تدريب مهني للسائقين، ولا توجد منظومة رقابية إلكترونية على سير الشاحنات، والعقوبات في كثير من الأحيان تُحسم بالتصالح، والشركات الكبرى محصّنة بعلاقات سياسية أو أمنية، كما أن معظم الشاحنات تعمل بنظام "المقاول الباطن"، ما يجعل تعقّب المسؤولية القانونية شبه مستحيل.
ما الحل؟
لذا يرى الخبير الامني اللواء أحمد جوهر إنه لا بد من إصلاح تشريعي عاجل لقانون المرور والنقل، وتوفير قاعدة بيانات موحدة لكل شاحنة وسائق، ورقابة إلكترونية مباشرة باستخدام GPS ونقاط ذكية، وتحويل جزء من حركة البضائع إلى السكك الحديدية، ومنع الشاحنات من السير في المدن الكبرى نهارًا، ومحاسبة الموظفين الفاسدين في المرور والمحليات، وتشجيع شركات النقل الشرعي وتوفير تمويل لتحديث الأسطول.
ما يحدث على الطرق المصرية يوميًا جريمة مكررة، وشاحنات تسير فوق القانون، وأجهزة رقابية عاجزة، ودماء تُسفك بلا حساب، والنقل الثقيل في مصر ليس مجرد وسيلة شحن، بل خطر قومي يحتاج تدخلًا حقيقيًا، بخطة متكاملة، تبدأ من التشريع وتنتهي عند المحاسبة، إما أن تتحرك الدولة الآن.. أو نستعد لحوادث الغد التي ستكون أبشع، وأقسى، وربما.. أقرب مما نتصور.