رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «1»

النبأ




مقدمة:


كان التعريف التقليدي للإنسان أنه حيوان ناطق، ثم اتضح أن الببغاء تنطق، ودخل على الإنسان تعريف أخر هو أنه حيوان ضاحك، ثم اتضح أن القرود تضحك، أما التعريف الثاني الذي ينفرد به الإنسان تماما وسط كل من على الأرض من مخلوقات فهو أنه حيوان ذو تاريخ تتراكم لديه خبرة من سبق من البشر على الأرض فيستفيد منها ويضيف إليها وهكذا يتكون التاريخ الذي ينفرد به الإنسان وحده دون غيره من المخلوقات.


فلناخذ مثلًا مخلوقًا آخر من الحيوانات الثديية الشبيهة في تكوينها العضوي بالإنسان إلى حد كبير وهو الفأر لنوضح معنى أن الإنسان ذو تاريخ بدقة كاملة.

فلو أن رجلًا اكتشف مثلًا أن بمطبخ منزله عشرة فئران تسبب له قلقًا شديدًا وتلتف الكثير مما بالمطبخ من مأكل وغيره، فإن أول ما يتبادر إلى ذهن الرجل هو أن يتخلص من هذه الفئران العشرة بقتلها، فيشتري الرجل مصيدة ويضع داخلها قطعة من الجبن، وفي أول ليلة يدخل الفأر الأول وتطبق عليه المصيدة ويقتله الرجل في الصباح ويعد المصيدة من جديد بقطعة الجبن فيدخل الفأر الثاني ويلقي نفس المصير في الصباح، وهكذا يتخلص الرجل من الفئران العشرة الذين يلقون نفس المصير لماذا؟ لأن الفئران لا تتعلم ولا تتراكم لديها خبرة من سبقها وبذلك فهي مخلوق بلا تاريخ، فالتاريخ رصيد ينفرد به الإنسان دون سائر الكائنات الحية.


كانت ضحى عبد الرحمن الكواكبي هي صاحبة الفضل في فكرة هذا الكتاب فخلال إحدى جلساتنا الفكرية قالت 
لي أن من العار أن يضيع الرصيد الضخم من المعلومات والأحداث التي مرت بي والفرص الهائلة لإكتساب الخبرة التي حباني المولى بها نتيجة الأحداث الجسام التي مرت بها مصرنا الحبيبة والتي عشت وسطها وتكون وعي بها منذ كنت طفلا دون العاشرة.


واختمرت الفكرة في ذهني ورحت أضع تصورًا لما يمكن أن أقدم به هذا الرصيد الضخم من التجربة والمعلومات 
والأحداث الجسام التي مرت بها مصر الحبيبة وعشت وسطها، وكنت أحيانًا طرفًا فيها ورأيت أن أفضل ما أفعله هو أن أقدم نفسي أولًا.


متى ولدت والبيئة التي نشأت فيها وكيف كانت سنوات الوعي الأولى، ومصر تمر وقتها بغليان سياسي نتيجة إلغاء دستورها الذي اكتسبته بثورة 1919 المجيدة، وغليان اقتصادي نتيجة الأزمة الأقتصادية العالميةا لتي بدأت سنة 1929 وأمتدت حتى وصلت إلى الحرب العالمية الثانية، وكان من نتائجها نجاح هتلر والحزب النازي في الوصول للسلطة في ألمانيا وإعدادها للحرب الطاحنة التي انتهت بتدمير ألمانيا تمامًا وانقسام العالم إلى معسكرين رأسمالي وشيوعي في أعقاب الحرب التي انتهت سنة 1945.

وبدأت بعدها مرحلة المراهقة التي شهدت ثورة سياسية عارمة في مصر تهدف إلى اسقاط مشروع معاهدة صدقي بيفين التي كانت تربط مصر بالاستعمار البريطاني الذي كانت جيوشه تحلها عندئذ برابطة بين متبوع وتابع.


وكان رئيس وزاراء مصر الذي حاول إقرار هذه المعاهدة هو المرحوم إسماعيل صدقي باشا، وهو نفس الرجل الذي سبق له إسقاط دستور ثورة 1919 المجيدة وفرض دستور منزوع الأنياب عام 1930 مما سبب غليان ثوري الذي أشرت إليه أعلاه، والذي لم ينتهي إلا عندما نجح الشعب في إسقاط دستور صدقي وإعادة دستور سنة 1923 الذي أنتجته ثورة 1919 المجيدة.


كان مشروع معاهدة صدقي / بيفين الذي أسقطه الشعب سنة 1948 بعد نجاح الثورة السياسية العارمة التي كانت طليعتها الجامعات والمدارس ونقابات العمال، وكنت وقتها في مرحلة الدراسة الثانوية بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية التي كانت إحدى المدارس الثانوية العنيفة في ثورتها وإحدى ركائز هذه الثورة السياسية التي قادتها على الجانب الطلابي جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) التي كانت إحدى الجامعتين الوحيدتين في مصر عندئذ بجانب جامعة فاروق الأول بالإسكندرية (جامعة الإسكندرية الآن).


وكانت البداية الأولى للاضطرابات سنة 1946 عندما خرج الطلبة والعمال والنقابات في مظاهرات عارمة تطالب بإعادة النظر في المعاهدة القائمة بين مصر وبريطانيا لإلغائها والمطالبة بجلاء جيش الاحتلال البريطاني عن مصر.


وفي يوم 9 فبراير سنة 1946 خرجت جامعة فؤاد الأول كلها من مقرها متجهة إلى القصر الملكي في عابدين، وعند وصولها إلى كوبري عباس (كوبري الجيزة الآن) للعبور للقاهرة كان الكوبري مفتوحًا فلم تستطع التظاهرة العبور وفجأة وجد آلاف المتظاهرين أنفسهم محاصرين من الخلف بعدة آلاف من جنود البوليس المعروفين باسم «بولوك الخفراء» الذين تطوروا اليوم إلى ما يعرف بجنود الأمن المركزي.


بدأ جنود البلوك مهاجمة المظاهرة بوحشية بالهراوات والعصى الغليظة ولم يستطع المتظاهرون الفرار فالكوبري مفتوح أمامهم ووحوش الخفراء يسحقونهم من الخلف، وقفز بعض الطلبة في النيل هربًا من هراوات المهاجمين، وكانت حصيلة هذه المعركة حوالي ثلاثين قتيلًا والمئات من الجرحى.


وكنت وقتها في السنة الثانية بمدرسة الخديوي إسماعيل، وخرجت مدرستي كلها في مظاهرة عارمة لتلحق بالمظاهرة الكبرى القادمة من الجامعة عند قصر عابدين، وكنت أحد زعماء مدرستي وأحد خطباء المظاهرة ولم نكن ندري بالمذبحة التي وقعت عند كوبري عباس، وعندما علمنا عصر نفس اليوم اشتعلت مصر من أقصاها إلى أقصاها.


لم يكن هناك وقتها تليفزيون ولم يذع الراديو الذي كان ملكا للحكومة أي شيء عن مذبحة كوبري عباس، وكانت الأخبار تتناقل شفاهة أو عند صدور صحف صباح اليوم  التالي، وعندما اشتعلت المظاهرات في كل أنحاء مصر في اليوم التالي اضطر المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا، رئيس الوزراء عندئذ إلى تقديم استقالته وقبلها الملك فورًا لتهدئة البلاد، وكانت حكومة النقراشي حكومة تستند إلى أحزاب أقلية وبرلمان تم تزوير انتخاباته لإقصاء حزب الأغلبية الشعبية الساحقة وهو حزب الوفد عن الحكم وكلف الملك فاروق إسماعيل صدقي بتشكيل وزارة جديدة، ولم يكن صدقي رئيسا لحزب سياسي وقتها ولكن برلمان أحزاب الأقلية القائم منحه الثقة.