رحلة يوسف شاهين.. قطار سينمائي عابر للحدود واللغات

لم يعد مهرجان الجونة السينمائي حدثًا فنيا لعرض الأفلام وتكريم الرموز، بل أصبح مناسبة فنية وثقافية تحتفي بالتاريخ السينمائي المبهر.
وشهدت الدورة الثامنة من المهرجان، المقامة حاليا، احتفاء استثنائيا بمئوية أحد عباقرة السينما العربية، وهو المخرج الكبير يوسف شاهين.
ولم يكن مجرد صانع أفلام، بل فنانا فذا ابتكر لغة ورؤية أعادت تعريف معنى السينما، وكيف يمكن للفيلم أن يكون نافذة تقود نحو حرية لا تعترف بالحدود.

في حضرة 100 عام من العبقرية.. مهرجان الجونة السينمائي يحتفي بالإرث السينمائي للعبقري يوسف شاهين
ويأتي انطلاق هذا الاحتفاء في الدورة الثامنة لمهرجان الجونة كمحطة أولى لقطار سينمائي عابر للحدود واللغات، يسعى إلى إيقاظ الذاكرة الجماعية وتسليط الضوء على إرث يوسف شاهين باعتباره قضية مفتوحة قابلة للقراءة من جديد كل يوم.
وتمتد رحلة شاهين السينمائية من أفلام مثل "باب الحديد"، و" الأرض"، إلى "حدوتة مصرية"، و"الآخر" وهي أفلام رسمت طريقا خاصا بحث عبره شاهين عن معنى الحرية والهوية والجسد، بكاميرا لا تكتفي بالرصد بل تمارس التحريض لتخلق عوالم بصرية مربكة ومباغتة صنعت من السينما أداة نجاة وفنا للبوح والمقاومة معا.
وضمن الفعاليات يحتضن مهرجان الجونة معرضا تفاعليا بعنوان: "باب الحديد"، مستلهما من فيلمه الشهير تصميما يمزج بين التراث والتجريب عبر تعاون بين ماريان خوري المديرة الفنية للمهرجان، وشيرين فرغل مؤسسة JYStudios، وهو معرض لا يقدم الأعمال للفرجة فقط بل يحول الفيلموغرافيا إلى تجربة حسية نابضة تضع المتلقي داخل قطار شاهيني من الضوء والذاكرة والدهشة.
وتعود أفلام شاهين إلى الشاشة من جديد عبر عرض فيلمه إسكندرية كمان وكمان، ضمن سلسلة أعمال السيرة الذاتية موازاة مع عرض أربعة أفلام لمخرجين عرب تتلمذوا عليه أو تأثروا بمدرسته الفنية وهي فيلم نهلة للمخرج الجزائري فاروق بلوفة الصادر عام 1979، وفيلم السينما العربية الفتية لفريد بوغدير الصادر عام 1987، وفيلم عصفور السطح لفريد بوغدير الصادر عام 1990، وفيلم وداعا فوران للمغربي داوود أولاد السيد الصادر عام 1998، وهي أعمال تعكس الامتداد الحي لروح شاهين حيث تتحول السيرة الذاتية إلى أداة مقاومة ويصبح الحكي ضرورة وجود لا ترف سردي.
كما أقيمت ضمن فعاليات الدورة جلسة بعنوان رحلة مع الأستاذ من عدسته إلى عوالمهم الخاصة شارك فيها فريد بوغدير وداوود أولاد السيد وجابي خوري ويسرا، وأدارها أحمد شوقي مدير منصة سيني جونة بحضور نخبة من الفنانين من بينهم حسين فهمي ولبلبة وخالد يوسف ويسرا اللوزي ومحمود حميدة وإلهام شاهين وسارة عبد الرحمن وداليا شوقي وآخرون.
وأكدت ماريان خوري أن الاحتفال لا يختزل في التكريم بل يقوم على تفاعل حي مع الإرث الشاهيني، بينما أوضح أحمد شوقي أن الجونة بدأت مئوية شاهين مبكرا قبل عام 2026 تمهيدا لعام رمزي في تاريخ السينما العربية.
وجاءت الشهادات والذكريات لتكشف الوجه الإنساني والمعرفي لشاهين إذ قال جابي خوري إن يوسف شاهين غيّر حياته بالكامل، كما ترك الهندسة الكهربائية ليعمل معه وقد منحه شاهين حينها راتبا قدره 2000 جنيه شهريا ولم يفتح معه باب الحديث عن المال بعد ذلك أبدا، فيما قالت يسرا إن شاهين كان ملهمها وإنسانا نادر وديكتاتور في الفن وجدع في الحياة وإنها تعلمت منه حب المهنة بصدق وبكت عندما زارت معرضه.
أما داوود أولاد السيد فاعتبر أن خيال شاهين لا يضاهى وأن أثره يمتد إلى الجيل الجديد في المغرب، فيما قال فريد بوغدير إن شاهين علمهم أن الفيلم ليس للتسلية فقط وأن باب الحديد كان درسا في الحرية يعرضه كل عام لطلابه فيكتشفون فيه جديدا كل مرة، بينما روى حسين فهمي أنه عرف شاهين منذ أن كان طالبا بمعهد السينما، وإنه من أقنعه بالعودة من أمريكا لإخراج أول أفلامه وكان يحضر إلى منزلهما لكتابة السيناريو معهم.
يسرا تكشف كواليس فيلم "حدوتة مصرية" مع يوسف شاهين
وتوقفت يسرا عند تجربتها معه في حدوتة مصرية فقالت إنها لم تفهم السيناريو في القراءة الأولى ورفضت الدور لكنه أصر وجاء ليقنعها بنفسه، وكان يطلب نورا ربانيا في الإضاءة، وروت أنها شاركته دهان الجدران في مواقع التصوير حتى يبلغ ما يريد، كما تحدثت عن فيلم إسكندرية كمان وكمان.
وقالت إنها تمنت أن يمثل يوسف شاهين بنفسه فوافق، واستعادت خفة ظله قائلة إنه كان يمازحها دوما ويمنحها أدوارا حية تتسم بالتحدي والحركة.
فيما أكد جابي خوري أن شركة شاهين لا تزال قائمة منذ عام 1952 وأنها خرجت أعدادا من المخرجين وكان شاهين يضمن بعضهم أمام الجهات المانحة بما يجعل اسمه مؤسسة سينمائية حية لا مجرد علامة في التاريخ، وفي ختام الجلسة وقف الحضور مصفقين بحرارة في لحظة امتزج فيها الحنين بالفخر لتؤكد أن يوسف شاهين حتى بعد مرور مئة عام لا يزال حاضرا في كل لقطة وفي كل فكرة وفي كل سؤال لم يجب بعد.
