“التصوير العشوائي”.. ظاهرة تجرّ أصحابها إلى قفص الاتهام.. ملف للورقى
«ثقافة التصوير».. من التوثيق إلى التشهير!
الكاميرا في يد المواطن.. بين كشف الحقيقة وانتهاك الخصوصية
“التصوير العشوائي”.. ظاهرة تجرّ أصحابها إلى قفص الاتهام
من الموبايل إلى المحضر.. بلاغ كل ساعتين بسبب فيديو مسرّب
الشارع تحت الكاميرا.. هل تحولت مصر إلى ساحة مراقبة مفتوحة؟
الفيديوهات تسبق البلاغات.. “التصوير العشوائي” يقلق الجهات الأمنية
4300 بلاغ في عام واحد.. والظاهرة في تصاعد مستمر
أستاذ قانون جنائي: التصوير في حد ذاته ليس جريمة.. النشر هو الخطر الحقيقي
64% من المستخدمين شاركوا مقاطع من الشارع دون إذن!
في الآونة الأخيرة تصاعدت موجة ما يمكن تسميته بـ«التصوير العشوائي»، وانتشرت مقاطع فيديو لأشخاص صُوّروا دون موافقتهم، سواء في الشوارع أو المواصلات العامة أو حتى داخل المدارس والمستشفيات. لم يعد الهاتف الذكي وسيلةً للاتصال أو الترفيه فحسب، بل تحوّل إلى «عينٍ راصدة» لكل ما يجري في الحياة اليومية المصرية. فبكبسة زر واحدة، يستطيع أي شخص أن يوثّق مشاجرة أو حادثًا أو حتى موقفًا عابرًا، ثم ينشره على مواقع التواصل دون إذنٍ من أحد.
وبينما يرى البعض في هذه الظاهرة شكلًا من أشكال «المراقبة المجتمعية» وكشف الحقائق والفساد، يحذر آخرون من تحولها إلى «تعدٍّ رقمي» على الخصوصية، يهدد السلم الاجتماعي ويفتح الباب أمام قضايا التشهير والابتزاز الإلكتروني.
وتكشف النبأ في السطور التالية عن سلسلة وقائع تعاملت معها وزارة الداخلية خلال الأشهر الماضية، بعدما انتشرت مقاطع مصوّرة لحوادث ومشاجرات قبل وصول أي بلاغ رسمي. وفي المقابل، تفتح النبأ ملف الضحايا الذين تحولت حياتهم إلى جحيم بعد تداول صورهم أو مقاطعهم دون إذن، كما تسلّط الضوء على الجوانب القانونية والحقوقية لتلك الظاهرة، وموقف القانون من «التصوير بنية التوثيق» مقابل «التصوير بقصد التشهير».
خلال الأشهر الماضية، تصدرت مواقع التواصل عشرات المقاطع التي وثقت مشاجرات وأحداثًا وقائعها لم تتضح بعد، أبرزها ما عُرف إعلاميًا بـ«فضيحة المحور» التي انتهت بحبس الشاب المتهم بتصوير الفيديو دون إذن.
«فضيحة المحور».. فيديو عابر ينتهي بالحبس
لم يكن ما عُرف إعلاميًا بـ«فضيحة المحور» سوى جرس إنذارٍ صاخب حول خطورة ظاهرة التصوير العشوائي. ففي سبتمبر الماضي، قررت النيابة العامة حبس شاب بتهمة «انتهاك حرمة الحياة الخاصة» بعد أن صوّر فتاة داخل سيارتها أعلى محور المشير بالقاهرة الجديدة، ثم نشر المقطع على مواقع التواصل مصحوبًا بتعليقات مسيئة. وبعد ساعات من الانتشار، تحركت أجهزة وزارة الداخلية، وتمكنت من تحديد هوية المتهم وضبطه.
وأكد بيان النيابة أن الواقعة تشكل انتهاكًا للمادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، وقررت النيابة حظر نشر أي تفاصيل عن الفيديو أو هوية الفتاة حرصًا على خصوصيتها.
فيديو «مول أكتوبر».. من مشاجرة بسيطة إلى عاصفة تنمر
في يوليو الماضي، انتشر مقطع مصوَّر لسيدة في أحد المولات التجارية بمنطقة 6 أكتوبر أثناء مشادة كلامية بينها وبين أحد العاملين. الفيديو حصد مئات الآلاف من المشاهدات في ساعات قليلة، وتعرضت السيدة بعدها لحملة سخرية وسبّ عبر التعليقات. وبعد تدخل الجهات المختصة، تبيّن أن الفيديو مقتطع من سياقه وأن السيدة لم ترتكب أي مخالفة، لتتحول من ضحية موقف عابر إلى هدف للتنمر والتشهير.
مشاجرة الشرقية.. فيديو قديم يُعيد الفوضى
في واقعة أخرى، أثار فيديو لمشاجرة داخل حافلة نقل عام في محافظة الشرقية جدلًا واسعًا بعدما أظهر أحد الركاب يضرب آخر بشكل عنيف. خلال ساعات قليلة، وصل الفيديو إلى صفحات كبرى على “فيسبوك” و“تيك توك”، قبل أن تصدر مديرية الأمن بيانًا توضح فيه أن المشاجرة حدثت قبل أسبوعين وتم التصالح بين الطرفين، وأن إعادة نشر الفيديو بهذا الشكل “أثار البلبلة بين المواطنين وأعاق مجرى التحقيق”.
كاميرا المستشفى.. «توثيق» يتحوّل إلى تشهير
في أغسطس الماضي، تداول مستخدمو مواقع التواصل مقطعًا مصورًا من داخل مستشفى خاص بالقاهرة يظهر مريضًا في حالة انهيار، التقطه أحد المرافقين دون إذن من المريض أو الطاقم الطبي، بهدف «التوثيق» كما قال ناشر الفيديو لاحقًا. لكن سرعان ما تحول المقطع إلى مادة للتعليقات الساخرة، ما دفع أسرة المريض إلى تقديم بلاغ رسمي إلى مباحث الإنترنت يتهمون فيه المصوّر بـ«التشهير والإساءة المعنوية».
مشادة المدرسة الدولية.. فيديو مجتزأ يشعل الغضب
وفي مايو الماضي، تلقى قطاع الأمن العام بلاغًا من إدارة إحدى المدارس الدولية بالتجمع الخامس بعد تداول مقطع مصوَّر يظهر مشادة بين معلمة وأحد أولياء الأمور داخل المدرسة. الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع تسبب في هجوم شعبي على المدرسة قبل أن يتضح لاحقًا أن المقطع مجتزأ، وأن الواقعة تعود لشهر فبراير الماضي وتمت تسويتها داخليًا.
وأكد مصدر بوزارة التربية والتعليم أن «نشر مثل هذه المقاطع دون إذن يمثل تعديًا على حرمة المؤسسات التعليمية»، مشيرًا إلى ضرورة الحصول على موافقة مسبقة قبل أي تصوير داخل المدارس.
فتاة ميكروباص الإسكندرية.. من ضحية إلى متهمة
كما شهدت الإسكندرية واقعة مشابهة حين صوّر أحد الركاب فتاة داخل ميكروباص أثناء شجار لفظي بينها وبين السائق، ليتداول المقطع على نطاق واسع مرفقًا بتعليقات تسخر من الفتاة وتنتقص من ملابسها. وبعد تحقيقات موسعة، أمرت النيابة بحبس المصوّر بتهمة «التحرش اللفظي وانتهاك الحياة الخاصة»، وأكد بيان رسمي أن “الشارع العام لا يُعد مبررًا لانتهاك خصوصية الأفراد، وأن تصوير شخص دون رضاه حتى في مكان مفتوح يُعتبر جريمة إذا كان الهدف منه الإساءة أو النشر العام”.
أرقام صادمة من وزارة الداخلية تكشف اتساع دائرة “الانتهاك الرقمي”
هذه الوقائع مجتمعة تعكس حالة من «التسيّب الرقمي» الذي فرض نفسه على المجتمع، حيث يُسارع المواطن إلى الإمساك بالهاتف قبل أن يُفكر في مساعدة الضحية أو الاتصال بالشرطة.
وفي تقرير لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء (يونيو 2024)، تبيّن أن 58٪ من المصريين يستخدمون هواتفهم لتصوير مشاهد في الشارع، وأن واحدًا من كل أربعة مقاطع يتم نشره دون إذن أصحابها. التقرير وصف الظاهرة بأنها “جزء من ثقافة التفاعل اللحظي، لكنها تحمل مخاطر قانونية واجتماعية متنامية”.
ووفقًا لتقرير قطاع مكافحة جرائم تقنية المعلومات بوزارة الداخلية لعام 2024، فقد سجلت إدارات مباحث الإنترنت أكثر من 4300 بلاغ تتعلق بجرائم نشر صور أو مقاطع فيديو دون إذن من أصحابها، بزيادة تُقدّر بنحو 37% مقارنة بعام 2023، في حين تبين أن 70% من تلك الوقائع بدأت من منصتي “فيسبوك” و“تيك توك” اللتين أصبحتا أكثر وسائل التواصل استخدامًا بين الفئات العمرية الشابة في مصر.
وفي النصف الأول من عام 2025 فقط، تلقت الوزارة ما يقرب من 2100 بلاغ جديد حول وقائع تتعلق بتصوير مشاجرات أو حوادث أو نشر مقاطع تمسّ الحياة الخاصة دون إذن، حسب ما أكده مصدر أمني لـ "النبأ". وأوضح المصدر أن أكثر المحافظات تسجيلًا للبلاغات كانت القاهرة والجيزة والإسكندرية، تليها محافظات الدلتا، لا سيما الغربية والشرقية، بينما جاءت أغلب المقاطع المصوّرة من الطرق العامة والمقاهي والمدارس.
وتشير تقديرات مركز دعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء في دراسة حديثة صدرت في سبتمبر 2025 إلى أن نحو 64% من مستخدمي الإنترنت في مصر سبق وأن شاركوا محتوى مصوّرًا من الشارع أو المواصلات أو المرافق العامة، دون الحصول على إذن مسبق من الأشخاص الظاهرين فيه، مما يعكس حجم انتشار الظاهرة وتغلغلها في السلوك اليومي.
أكد مصدر أمني مسؤول بوزارة الداخلية لـ "النبأ" أن الوزارة تتابع يوميًا ما يتم تداوله من مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن فرق الرصد الإلكتروني بقطاع مكافحة جرائم تقنية المعلومات تعمل على التحقق من صحة المحتوى ومكان وزمان التصوير، لاتخاذ الإجراءات القانونية إذا تضمّن الفيديو أي مخالفة أو جريمة.
وأوضح المصدر أن الوزارة تلقت خلال الأشهر الأخيرة مئات المقاطع المصوّرة لمشاجرات وحوادث مرورية قبل وصول أي بلاغ رسمي، مشيرًا إلى أن التفاعل السريع عبر منصات “واتساب” الخاصة بغرف العمليات ساهم في سرعة ضبط الجناة في نحو 40% من الوقائع. لكنه في المقابل حذّر من أن النشر العشوائي لتلك المقاطع قد يضرّ بسير التحقيقات أو ينتهك خصوصية المجني عليهم، خصوصًا في قضايا النساء أو الأطفال.
ومن جانبه، يرى اللواء محمد نور الدين، مساعد وزير الداخلية الأسبق، أن “ثقافة التصوير” أصبحت سلاحًا ذا حدّين، فهي من ناحية تساعد أجهزة الأمن في كشف الحقائق وتحديد هوية المتورطين، لكنها من ناحية أخرى تتحول إلى جريمة إذا خالفت القانون أو استُخدمت في التشهير أو الإضرار بالآخرين. ويضيف أن «الوزارة لا تمنع التصوير في الأماكن العامة ما لم يمسّ الحياة الخاصة، لكنها تُحذر من النشر غير المسؤول الذي قد يعرّض صاحبه للمساءلة القانونية».
أما من الزاوية القانونية، فيوضح الدكتور عبدالله محمد المحامي والخبير القانوني أن الخصوصية تعتبر حق دستوري لا يمكن التعدي عليه وهي ضمانة قانونية ودستورية ومع ذلك نجد العديد من الحالات التي يتم فيها استخدام الكاميرات بشكل غير قانوني أو غير أخلاقي واعتداء صارخ، من تصوير الأفراد في الأماكن العامة دون إذنهم، إلى تسريب مقاطع فيديو خاصة بهدف الإساءة أو الابتزاز، تتعدد المواقف التي تجعلنا نتساءل عن الخط الفاصل بين الاستخدام المشروع وغير المشروع للكاميرات.
ولأن حماية خصوصية الأفراد ضرورة مجتمعية وقانونية، وضعت الدولة قوانين صارمة تنظم عملية التصوير، وفرضت عقوبات رادعة لمن ينتهك هذا الحق، هذه القوانين تهدف إلى تحقيق التوازن بين الحق في التصوير كحرية شخصية وبين حماية الخصوصية كحق أصيل لكل فرد.
وأكد الخبير القانوني أن تصوير شخص دون علمه يعد انتهاك للخصوصية، وهو حق مكفول بموجب الدستور والقوانين المصرية، ويعتمد حكم التصوير دون إذن على الغرض من التصوير وسياقه، وما إذا كان يهدف إلى الإساءة أو النشر دون موافقة.
يجرم القانون تصوير الأشخاص دون موافقتهم في العديد من الحالات، خصوصًا إذا كان التصوير يمس بخصوصيتهم أو يستخدم بشكل يسبب ضررًا لهم حيث ذلك يؤدي إلى عقوبة التصوير دون اذن.
ويؤكد الدكتور أشرف عبد القادر، أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة، أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 نصّ في المادة (25) على أن كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين عبر نشر أو بث صور أو تسجيلات دون إذن يُعاقَب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة تصل إلى 100 ألف جنيه، ويمكن أن تتضاعف العقوبة إذا ترتب على النشر ضرر مادي أو معنوي.
ويضيف عبد القادر أن التصوير في الأماكن العامة في حد ذاته ليس مجرّمًا ما دام لم يتضمّن نية الإساءة أو التشهير أو النشر دون إذن، لكن الخطورة تبدأ عند نقل المقطع إلى الفضاء الإلكتروني، حيث تتحول نية التوثيق إلى جريمة إذا تسببت في ضرر لسمعة أو خصوصية أحد الأشخاص.
من جانبه، يعتبر المحامي الحقوقي محمد أحمد زنقور الخبير القانوني، أن “انتشار ثقافة التصوير دون إذن” يمثل اعتداءً على الحق في الخصوصية المكفول بالدستور المصري في مادته (57)، التي تنص على أن للمواطنين «حرمة في حياتهم الخاصة لا تُمسّ»، مضيفا أن “الانتهاك لا يكون فقط في نشر الفيديو، بل في مجرد تسجيله دون موافقة صاحب الشأن”.
ويدعو زنقور إلى ضرورة إطلاق حملات توعية إعلامية بالتعاون مع وزارتي الداخلية والاتصالات لشرح الفرق بين التوثيق بغرض الإبلاغ والتشهير أم بغرض الانتقام والسخرية، مؤكدا أن “النية” عنصر حاسم في توصيف الجريمة.
ويؤكد الخبير التقني محمد توفيق، المتخصص في أمن المعلومات، أن مراقبة المحتوى المتداول على السوشيال ميديا باتت مهمة معقدة بسبب سرعة النشر وانتشار خاصية البث المباشر، مشيرًا إلى أن خوارزميات فيسبوك وتيك توك لا تميز بين محتوى توثيقي ومحتوى مسيء، مما يجعل العبء الأكبر على المستخدم نفسه.
ويضيف توفيق أن هناك مبادرة مشتركة بين وزارة الداخلية والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات منذ أوائل عام 2025، لرصد المقاطع التي تنتهك الخصوصية وتحديد مصدر نشرها خلال أقل من 24 ساعة، في إطار خطة الدولة للحد من جرائم “التشهير الرقمي”.
في النهاية، تظلّ ظاهرة «التصوير والنشر» سيفًا ذو حدّين في المجتمع المصري؛ فبين من يراها وسيلة للمراقبة الشعبية وكشف الفساد، ومن يعتبرها خرقًا فجًّا لخصوصية الأفراد وانتهاكًا لحرمتهم، تبقى الحاجة ملحّة إلى توازن دقيق بين الحق في المعرفة والحق في الخصوصية.
ومع تزايد البلاغات وتشعّب المنصات الرقمية، يبدو أن القانون وحده لن يكون كافيًا للحدّ من الظاهرة، ما لم تُصاحبه ثقافة مجتمعية تحترم الحدود الأخلاقية والإنسانية للتوثيق. فليس كل ما يُلتقط يُنشر، ولا كل ما يُوثّق يصبح شأنًا عامًا.