رئيس التحرير
خالد مهران

رحلة بين المحافظات

المولد النبوي في مصر.. حين تتحول الذكرى إلى مهرجان شعبي في المحافظات

حلاوة المولد
حلاوة المولد

حين يهل شهر ربيع الأول، لا يقتصر الاحتفال بالمولد النبوي على كونه مناسبة دينية فقط، بل يتحول إلى لوحة فنية ترسمها كل محافظة بطريقتها الخاصة. بين أسواق تعج بالحلوى والعرائس السكرية، وموالد صوفية تملأ الأجواء بالذكر والإنشاد، وأسرٍ ما زالت متمسكة بطقوس الأجداد، يبدو المشهد كأنه رحلة في الزمن تعكس تنوع مصر وثراءها الشعبي.

 

فالاحتفال في القاهرة ليس هو نفسه في الإسكندرية، وما يعيشه أهل دمياط يختلف عن عادات الصعيد أو النوبيين في أسوان. كأنك تعبر بخطواتك بين مدن مصر لتكتشف أن لكل مكان نكهته الخاصة، وأن روح المولد – رغم تغير الزمن – ما زالت حية في الأسواق والبيوت والذاكرة.

ومن هنا تبدأ حكايتنا… رحلة بين المحافظات، نغوص فيها في تفاصيل العادات، نستمع لأصوات الأهالي، ونسترجع معًا ما اندثر وما بقي من مظاهر البهجة التي تجمع المصريين حول حب النبي الكريم ﷺ.

دمياط.. "الحلاوة" وبهجة الأسواق الشعبية

في دمياط، التي تشتهر بصناعة الحلوى والأخشاب، يأخذ المولد النبوي نكهة خاصة. فمنذ عشرات السنين، كان التجار يزينون شوارع المدينة بالعرايس السكرية والخيول، وتكتظ الأسواق بالمواطنين القادمين من القرى المجاورة لشراء "الحلاوة".

يروي الحاج سيد من كفر البطيخ: "زمان كان المولد عندنا زي العيد الكبير، نلبس جديد وننزل السوق نشتري الحمصية والسمسمية ونرجع بالعرايس للأطفال."

أما النساء فكن يحرصن على إعداد أكلات شعبية مثل "الفطير بالعسل" و"القرص بالعجوة"، وتوزيعها على الجيران باعتبارها نوعًا من البركة. وتقول الحاجة أم محمد من قرية الشعراء: "إحنا كنا نجهز قبلها بأيام، ونزين البيت ونستنى الضيوف."

كما اشتهرت دمياط قديمًا بمظاهر الفرح في المولد من خلال عروض "الأراجوز" و"صندوق الدنيا"، التي كانت تجذب الأطفال في الميادين، بينما يقيم الكبار حلقات الذكر بجوار المساجد الكبرى.

اليوم ورغم زحف الحداثة، ما زالت دمياط تحافظ على بهجة المولد في أسواقها الشعبية، خصوصًا في مدن مثل فارسكور والزرقا ورأس البر، حيث يحرص الأهالي على شراء الحلاوة لأطفالهم، لتظل العادة حاضرة جيلًا بعد جيل.

ويرى محمد (٢٧ سنة، من رأس البر): "المولد بقى بالنسبة لنا ذكرى جميلة من الطفولة، يمكن مابقيناش نشوف العرايس زي زمان، لكن لسه بنحرص نشتري الحلاوة ونشارك فرحة العيلة."

بينما تقول منة (٢٢ سنة، من دمياط الجديدة): "أنا بحب أجواء المولد في السوق، حتى لو اختلفت التفاصيل، مجرد نزول الناس ولمة العيلة حوالين الحلوى بيخلينا نحس بروح المناسبة."

المنوفية.. "أم العرائس" ومظاهر البساطة

 

في قلب الدلتا، وتحديدًا بمحافظة المنوفية، كان المولد زمان يُعرف بـ "عرس القرى". فالعرائس السكرية كانت تباع بكثرة في الأسواق، حتى سُمّيت المنوفية قديمًا بـ "أم العرائس". يروي الحاج عبدالسلام من شبين الكوم: "زمان كان السوق يتملي بالعرايس الملوّنة، والبنات يزعلوا لو ماخدوش واحدة، دلوقتي العروسة بقت للذكرى مش أكتر."

وكانت النساء تحرص على إعداد "القرص بالعجوة" وتوزيعها على الأطفال، بينما يجتمع الرجال في حلقات ذكر بسيطة بجوار المساجد. اليوم تقلصت هذه الطقوس، لكن الأسواق لا تزال تحتفظ بلمحة من أجواء الماضي، خصوصًا في القرى الصغيرة حيث تباع العرائس إلى جانب الفوانيس الورقية.

الشرقية.. مواكب الطرق الصوفية والكرم الريفي

 

الشرقية من أكثر المحافظات التي احتفظت بعادات المولد النبوي المرتبطة بالطرق الصوفية. فحتى اليوم، لا يزال أتباع الطريقة الخلوتية والشاذلية ينظمون مواكب ذكر كبيرة، تتخللها الأعلام والطبول. يصف عم فتحي من الزقازيق المشهد قائلًا: "الليلة الكبيرة عندنا ما تتنسيش، الطبول تدوي، والناس من كل القرى تجتمع."

أما البيوت، فكانت قديمًا تستعد قبل المولد بأيام عبر شراء كميات كبيرة من "الحمصية والفولية والسمسمية"، وتوزيعها على الأطفال كنوع من البركة. وتقول أم رحاب من منيا القمح: "أمي كانت تعمل حلويات في البيت مش نشتريها من السوق، دلوقتي كله بقى جاهز."

رغم التغيرات، تظل الشرقية من المحافظات التي ما زالت تحافظ على الطابع الشعبي للمولد، خصوصًا في القرى البعيدة عن المدن.

أسوان.. النوبة وأناشيد التراث

 

في أقصى جنوب مصر، بأسوان، يأخذ المولد طابعًا مختلفًا يمزج بين العادات الإسلامية والتراث النوبي. ففي قرى النوبة، كان الأهالي يقيمون حلقات إنشاد جماعية باللغة النوبية والعربية، وتُضاء الساحات بمشاعل صغيرة تصنع من جريد النخل. يقول الحاج حسن النوبي من قرية غرب سهيل: "عندنا المولد مناسبة نجمع فيها العيلة كلها، نغني أناشيد نوبية عن النبي، ونعمل وليمة كبيرة."

الأطفال كانوا يرتدون أزياء زاهية الألوان، ويتجولون في الشوارع حاملين فوانيس من الصفيح، يغنون أهازيج شعبية خاصة بالمولد. حتى اليوم، ما زالت أسوان محافظة على هذا الطابع المميز، وإن دخلت بعض المظاهر الحديثة مثل مكبرات الصوت وألعاب الليزر.

الجيزة.. موالد الجوامع الكبرى

 

في الجيزة، خصوصًا بمنطقة الجيزة القديمة وبولاق الدكرور، كان المولد زمان يقترن بزيارة المساجد الكبرى وإقامة "حضرات" صوفية ضخمة. وكان الأهالي يجتمعون في ساحات مفتوحة، حيث تباع الحلاوة والعرايس، وتقام حفلات المداحين.

يقول الحاج فوزي من إمبابة: "المولد عندنا كان له رهبة، كنا نلبس جديد ونروح نحضر الحضرة، ونرجع بالليل معانا الحمصية والسمسمية."

اليوم لم يعد المشهد كما كان، لكن كثير من الأهالي ما زالوا يحرصون على شراء الحلاوة لأطفالهم، حتى لو غابت الأجواء الجماعية التي كانت تميز الماضي.

الفيوم.. الطقوس الزراعية وكرم الأرض

 

في الفيوم، كان المولد مناسبة يجتمع فيها الفلاحون بعد موسم الحصاد. كانوا يقيمون موائد كبيرة من منتجات الأرض مثل البلح والذرة والقمح، إلى جانب الحلاوة الشعبية. يروي عم جاد من طامية: "المولد كان بييجي بعد موسم الخير، فنوزع من اللي ربنا رزقنا بيه، والناس تاكل وتشرب ببلاش."

كما ارتبط المولد في بعض القرى بطقوس خاصة، حيث يرش الأطفال الماء على بعضهم كرمز للطهارة، بينما النساء يزينّ البيوت برسومات من الطين الملون. اليوم لم تعد هذه الطقوس موجودة إلا في بعض القرى النائية، لكنها ما زالت تعيش في ذاكرة كبار السن.

الدقهلية.. بهجة الأسواق الشعبية

 

الدقهلية كانت وما زالت واحدة من أكثر المحافظات احتفاءً بالمولد. فمدينة المنصورة تتحول في هذه المناسبة إلى مهرجان شعبي كبير، حيث تُنصب الخيام لبيع الحلوى، وتقام حفلات مدح وإنشاد.

الحاج محمود من أجا يقول: "المولد عندنا كان زي العيد، الناس تخرج كلها للأسواق، واللي ما يشتريش حلاوة يحس إنه ناقصه حاجة."


بورسعيد.. أجواء البحر والموالد الشعبية

في مدينة بورسعيد الساحلية، كان المولد النبوي يحمل طابعًا مميزًا يمزج بين روح البحر والاحتفالات الشعبية. على امتداد شارع فلسطين وسوق السمك، كان الباعة يفترشون الأرض بالحلوى، بينما الأطفال يتجولون حاملين العرائس والخيول السكرية. يروي الحاج عبدالعظيم من حي العرب: "زمان كنا نشتري الحلاوة ونقعد على الكورنيش ناكلها، والأنوار تزين المراكب في القنال."

وكان من العادات القديمة أن ينظم الصيادون موائد كبيرة من الأسماك المجففة والمملحة ويوزعونها على الجيران والفقراء، كنوع من النذور والبركة. وتقول الحاجة منيرة من حي الشرق: "البيوت كانت تتزين بالفوانيس الورقية، والأطفال يعملوا مسيرات صغيرة يرددوا فيها أهازيج عن النبي."
اليوم خفت هذه المظاهر، لكن لا تزال بعض الأسر تحافظ على شراء الحلوى وتزيين البيوت، خصوصًا في الأحياء القديمة.

الأقصر.. الموالد في حضرة التاريخ

في مدينة الأقصر، حيث يجاور الناس المعابد الفرعونية، اكتسب المولد طابعًا خاصًا يجمع بين قدسية المكان وروحانيات المناسبة. في أحياء الكرنك والأقصر القديمة، كان الأهالي يقيمون حلقات إنشاد صوفي قرب المساجد العتيقة، وتقام مواكب صغيرة تجوب الشوارع بأعلام مزينة بالآيات القرآنية.

يقول عم رمضان من الكرنك: "المولد هنا كان بيجمع الكبير والصغير، نعمل زينة من سعف النخل ونوزع البلح والجوز." وكانت النساء يتفنن في إعداد الأكلات الشعبية مثل الكشك والفتة باللحمة، ويقدمنها للزائرين باعتبارها "نفحة من بركة اليوم".

أما الأطفال، فكانوا يتنافسون في صناعة فوانيس يدوية من الخشب والقماش، يضيئونها ليلًا في ساحات الأحياء. وتضيف أم ياسين من الأقصر: "دلوقتي المظاهر قلت، بس لسه في القرى حوالين الأقصر الناس بتحتفل بطريقتها البسيطة."