رئيس التحرير
خالد مهران

محمد مازن يكتب: من بكين إلى القاهرة درس ملهم في تطوير التراث

النبأ

في أركان أحد أحياء "الهوتونغ" القديمة في بكين، تجلس شابة أمام مقهاها التراثي، تقدم الشاي والقهوة لصديقي المصري المخضرم صينيًا أدبًا وعلمًا، على ثابت، وهو يتأمل جدارية تحكي تاريخ الحي.

هذا المشهد، رغم بساطته، يعكس تحولًا جوهريًا في فلسفة التطوير العمراني: من الهدم والإخلاء إلى التجديد والتمكين.

لسنوات، انتهجت بكين سياسة تهدف إلى "تحديث" المدينة عبر إزالة أحيائها القديمة وبناء ناطحات سحاب ومشاريع حديثة مكانها، لكنها دفعت ثمنًا باهظًا: طمس للذاكرة، طرد للسكان، وتحول مناطق كاملة إلى مجرد واجهات سياحية بلا روح.

لكن شيئًا ما تغيّر. بفعل الضغط البيئي، والوعي الشعبي، وارتفاع قيمة التراث، تبنت بكين نموذجًا جديدًا يقوم على إحياء المباني دون تدميرها، وإشراك السكان بدل إقصائهم.

فبدلًا من جرافة تهدم، جاءت أدوات دقيقة ترمم، وتقنيات حديثة تدمج وحدات جاهزة (plugin modeling) في باطن البيوت دون تشويه واجهتها. تحول السكان من ضحايا للتطوير إلى شركاء فيه، ومن مهمّشين إلى رواد أعمال صغار.

والنتيجة؟ منازل تحولت إلى فنادق ومقاهٍ، وحرفيون وجدوا متنفسًا في محالّ أنيقة، والمناطق التي كانت تئن تحت وطأة الإهمال أصبحت "متاحف حية" تدر دخلًا مضاعفًا على سكانها.

هنا، ليس الحديث عن تجميل سطحي أو ديكورات تجارية، بل عن رؤية حضرية ترى أن الإنسان هو قلب المكان، وأن الحجارة دون روح تبقى متاحف صامتة، لا مدنًا نابضة.

هنا في "نانلوتشيانغ"، في المدينة القديمة وسط بكين، شرعت الحكومة، بدعم من المجتمعات المحلية وخبراء التراث، في عملية إعادة إحياء شاملة، مزجت بين التجديد العمراني والحفاظ على الطابع الأصلي. ونجحت في تحويل المكان إلى مراكز ثقافية واقتصادية نابضة بالحياة، إذ لم تقتصر العملية على ترميم المباني، بل شملت تدريب السكان على المشاركة في أنشطة سياحية وثقافية انطلاقًا من مبدأ هو التخطيط بشكل تشاركي وذكي.

النتيجة كانت فوق الخيال. منازل السكان تحولت إلى ورش ومقاهٍ ومكتبات ومعارض. وخلال سنوات قليلة، تحول الشارع وما يجاوره إلى "متحف حي" يستقبل عشرات الآلاف من الزوار يوميًا، فيما تضاعف دخل السكان المحليين لأكثر من خمس عشرة مرة.

منزل "لي" — اسم مستعار — تحول إلى فندق، وغرفة "شي" أصبحت متجرًا لعلامة تجارية، واستقر "وانغ" في مكانه يمارس حرفته التقليدية بمحل أنيق. ومن صفر دخل، وصل أجر منزل "لي" إلى عشرات الآلاف من اليوانات شهريًا حسب صديق مصري كان يدير هذا الفندق، وبات مكان "لي" مقصدًا لمشاهير من كافة أنحاء العالم، كان يسمع عنهم في الصحف فقط، وتغيرت هوية المكان كليًا.

وبجوار مجمّعي السكني، كان التحول أيضًا مذهلًا، حيث تحولت منطقة قريبة من محطة مترو "تشايشيكو"، تقاطع خطي 4 و7، من مجتمع سكني عشوائي محدود إلى نموذج ملهم، يجمع بين صيانة التراث مع الحداثة وتحسين جودة الحياة. المنطقة التي كانت حركة سكانها مقتصرة عليهم، أصبحت منطقة جذب سياحي، بعد أن رُمّمت مئات المباني السكنية، دون هدم أو طرد السكان.

ظهرت أنشطة مختلفة ومراكز ثقافية ومحلات صغيرة متنوعة المنتجات، يديرها سكان ومؤجرون من الخارج، والكل يربح.

وأقيم بنظام الشراكة في تقاطع رئيس مع محطة المترو مركز تجاري حديث يشبه "أركان بلازا" في الشيخ زايد في باطن الأرض، فيما حافظت على شكل المباني القديمة فوق الأرض.

وبفضل هذا النموذج، تحول تراث المدينة إلى قوة اقتصادية وسياحية، دون الحاجة إلى هدم أو تهجير، مما أدى إلى ارتفاع الدخل.

في الجانب الآخر، توجد القاهرة، بتاريخها الممتد وعمارتها المتفردة، لا تقل قيمة عن بكين، بل قد تفوقها من حيث الثراء الحضاري والعمق التاريخي.

مبادرات ترميم شارع المعز والجمالية، وبعض ما يجري في محيط الأهرامات والعتبة، تمثل نماذج تستحق الإشادة. لكننا ما زلنا نرى في بعض السياسات ميلًا للهدم والتفريغ، وفتح المحاور المرورية على حساب النسيج التاريخي.

ليس المطلوب أن نستنسخ تجربة بكين، بل أن نفهم رسالتها: التراث ليس عبئًا، بل هو أصل الهوية، وقوة ناعمة اقتصادية وثقافية. المطلوب هو التفكير في أدوات تنموية تشاركية، منها تعديل القوانين لتمكين استخدام المباني التراثية اقتصاديًا بشكل خفيف وغير مخل، وتوفير أدوات تمويل مجتمعي مثل الصكوك أو الشراكات الصغيرة، وإنشاء مراكز تدريب داخل الأحياء التاريخية، وتحفيز المستثمرين المحليين على تشغيل السكان بدلًا من إزاحتهم، وإشراك الجامعات وطلاب كليات السياحة في حملات توعية وخطط تنمية مجتمعية.

كما قالت المهندسة المعمارية مي الإبراشي للمتألقة رباب المهدي في بودكاستها "الحل ايه: "التراث ليس مبان جميلة فحسب، بل هو الذاكرة الحية، والركيزة لأي مستقبل مستدام". جوهر المسألة هو أن نعيد الاعتبار للإنسان، لا كعائق للتنمية، بل كحامل لهويتها وضامن لاستمراريتها.

في النهاية، القاهرة لا تحتاج إلى طلاء جديد، بل إلى فهم جديد. فهم يجعل من تراثها فرصة لا عقبة، ومن أهلها شركاء لا ضحايا، ومن أحيائها ذاكرة نابضة لا خرائط مهملة. فالتجديد الحقيقي لا يقاس بعدد الطوابق، بل بعمق الانتماء.