نزيف الأسفلت لا يتوقف.. ملف الإهمال في الطرق من حادثة المنوفية إلى الكارثة القادمة

على الأسفلت لا تمر السيارات فقط، بل تمر أيضًا أرواح تتأرجح بين الحياة والموت، ففي كل صباح، يخرج الملايين إلى أعمالهم، لا يحملون همًا سوى لقمة العيش، لكن ما لا يدركه كثيرون أن بعضهم لن يعود، ليس بسبب حادث عابر، بل بسبب طريق متهالك، بلا إنذار، بلا صيانة، بلا أدنى معايير الأمان.
في المنوفية، وقع المحظور مجددًا، طريق فرعي يبتلع سيارة ميكروباص بأكملها، يسقط قتلى وجرحى، ويثير موجة من الغضب الشعبي، ثم كما العادة، يُطوى الملف في صمت، لكن السؤال الذي لا يجب أن يُطوى متى يصبح الطريق في مصر وسيلة حياة لا وسيلة للموت؟
قرى بلا طرق آمنة.. والمدن ليست أفضل حالًا
حادثة المنوفية ليست استثناء، بل عنوان جديد لسلسلة طويلة من الكوارث الممتدة من الصعيد إلى الوجه البحري، "بنمشي وقلوبنا في رجلينا، فالطريق مليان شروخ وحفر، ولو حصل لك حاجة، محدش هيلحقك"، بهذه الكلمات وصف "أحمد.ع"، أحد سائقي خط المنوفية – طنطا، حالة الطرق الداخلية في المحافظة.
مصر وحوادث الطرق.. أرقام تكشف حجم الكارثة
رغم تراجع معدل الوفيات رسميًا في بعض السنوات، فإن الأرقام لا تزال تعكس أزمة، فمصر شهدت أكثر من 7100 وفاة في حوادث الطرق خلال عام 2023، المتوسط اليومي يقارب 20 حالة وفاة بسبب الطرق، ونحو 55 ألف إصابة سنويًا، ما بين عاهات مستديمة وفقدان أطراف، وخسائر الاقتصاد القومي بسبب حوادث الطرق تقدر بنحو 30 مليار جنيه سنويًا، لكن خلف هذه الأرقام وجوه وأسماء، وعائلات تتلقى عزاءً بدلًا من العودة الآمنة لمنازلها.
أين المشكلة؟ فساد في التنفيذ أم غياب للصيانة؟
"رصف الطريق ده اتعمل في 2022، بس كله بلاطة فوق التراب، مفيش طبقة أساس ولا صرف"، بهذه الجملة اختصر أحد سكان كفر عشما بالمنوفية الكارثة.
ويبدو أن هذه الجملة تصلح لوصف مئات الطرق التي يتم تسليمها في مصر بتوقيع مسؤول، وموافقة لجنة فنية، ثم تنهار بعد أشهر أو سنوات قليلة.
المشكلة لا تكمن فقط في الاعتمادات المالية، بل في غياب المحاسبة والرقابة الفنية، حيث تُسند الأعمال لمقاولين دون خبرة كافية، أو دون إشراف حقيقي من أجهزة المحليات والطرق، وتُرصف الطرق لأغراض دعائية وليس وفق أولويات فنية.
"خريطة الرعب".. أبرز الطرق القاتلة في مصر
بعض الطرق في مصر تحولت إلى "مصائد أرواح"، منها طريق الكريمات – بني سويف: شهد أكثر من 150 وفاة خلال خمس سنوات، والدائري الإقليمي جنوب الجيزة: تصادمات شبه يومية بسبب نقص الإنارة وانعدام الرقابة، والطريق الزراعي القديم (القاهرة – الإسكندرية): حفَر ومطبات عشوائية وقلة العلامات المرورية، ومناطق الريف والصعيد طرق متهالكة لا تُرى في تقارير التنمية رغم الكثافة السكانية.
من المسؤول؟ تعدد الجهات وغياب التنسيق
الأزمة تبدأ من غياب الجهة الواحدة المسؤولة عن الطرق، فبين الهيئة العامة للطرق والكباري، ووزارة النقل، ومديريات الطرق في المحافظات، والمجالس المحلية، تضيع المسؤولية.
وفي حادثة المنوفية، لم يُحدد حتى الآن المسؤول عن رصف الطريق المنهار، هل هو المقاول؟ الوحدة المحلية؟ إدارة الطرق بالمحافظة؟ لا أحد يملك إجابة دقيقة، رغم وجود الضحايا.
أصوات من الأرض.. شهادات من قلب المأساة
وتقول والدة إحدى الضحايا بالمنوفية: "بنتي كانت راجعة من شغلها والطريق ابتلع الميكروباص فجأة.. خدوه من المشرحة مش من بيته."
وقال آخر: "الناس في القرى بتموت من سوء الطرق، والدولة بتعلن عن افتتاحات لطُرق تانية مش محتاجاها."
هل توجد حلول حقيقية؟ أم مجرد وعود على الورق؟
وزارة النقل تعلن كل عام عن خطط لتطوير ورفع كفاءة شبكة الطرق، ومبادرات كبرى مثل المشروع القومي للطرق ومبادرة "حياة كريمة"، لكن المشكلة أن كثيرًا من الطرق الفرعية والريفية لا تدخل الخطة أصلًا، أو يتم التعامل معها كأولوية مؤجلة.
الحلول المقترحة من الخبراء تشمل إعادة هيكلة منظومة الإشراف الفني على الطرق، وإلزام المقاولين بضمان جودة لسنوات، وتفعيل الرقابة الشعبية من خلال الإبلاغ المجتمعي، ومضاعفة مخصصات صيانة الطرق، وربطها بمعدلات الحوادث.
الطريق ليس مجرد وسيلة.. بل مسألة حياة أو موت
حادثة المنوفية الأخيرة ليست إلا إنذارًا جديدًا بأن الإهمال في ملف الطرق لم يعد يُحتمل، فكل شق في الأسفلت، وكل حفرة تُهمل، وكل متر يُرصف بلا رقابة، قد يعني وفاة جديدة، وأسرة تفقد عائلها، وربما يكون تطوير الطرق ضرورة للتنمية، لكن الأهم أن تكون آمنة للحياة.