< محمد كمال يكتب: عملية سفنكس الأسرار الكاملة لضرب المفاعل النووي العراقي.. الحلقة الرابعة
النبأ
رئيس التحرير
خالد مهران

محمد كمال يكتب: عملية سفنكس الأسرار الكاملة لضرب المفاعل النووي العراقي.. الحلقة الرابعة

محمد كمال
محمد كمال

لم يكن من المنتظر أن يستجيب حليم بهذه السرعة لجاك ويخبره بشكل واضح عن طبيعة عمله والمأمورية الرسمية التي حضر من أجلها إلى باريس، خاصة وأنه لا شك أن حليم تم التنبيه عليه من قبل المخابرات العراقية أن بعثته إلى فرنسا هو وزملاؤه من العراق إنما هي أمر من أمور الأمن القومي العراقي.

لذلك كان في فعل حليم أن يصرّح بهذا الشكل الفج ومرة واحدة دون أي مقدمات يظهر منها أنه اقترب من مرحلة التصريح بحقيقة شخصيته وعمله، ما جعل قائد الخلية في باريس ينظر للموقف بشكل مختلف.

كان اللقاء الأول بين قائد خلية باريس وجاك بعد إعلان حليم بهذا الشكل عن حقيقة شخصيته وعمله، محلًا للخلاف فيما بينهما.

ذلك أنه كان يرى جاك من وجهة نظره أن حليم بهذا الشكل أصبح لقمة سائغة له وللخلية في كل ما يتمنّوه.

لكن على الجانب الآخر فإن رئيس الخلية كانت له نظرة مختلفة.

فكان ينظر لما حدث أنه من الممكن أن تكون المخابرات العراقية قد علمت بالعملية وتسعى بهذا الشكل لوضع حليم موضع العميل المزدوج، وسيترتب عليه أنه إذا تم التعامل مع حليم باعتبار معلوماته محل ثقة، فإن المعلومات التي سيمدّهم بها فيما بعد إنما في الحقيقة هي المعلومات التي ترغب المخابرات العراقية في توصيلها للموساد وليست المعلومات الحقيقية.

كان جاك واثقًا من وجهة نظره أن حليم أصبح جاهزًا الآن ليقدم كافة الخدمات، سواء كان برغبته أو أنه سيقوم بذلك دون علمه بما يدور وراء ظهره.

انتهى هذا اللقاء دون الوصول إلى نتيجة مباشرة في أمر حليم، وكان رأي قائد المجموعة عرض التقرير على كل من الخبير النفسي في المجموعة لتقديم الرأي والمشورة، وإرسال التقرير بشكل دوري وعادي إلى الموساد دون تقديم اقتراحات للمأمورية، وانتظار الأوامر القادمة.

كانت النسخة التي سُلّمت إلى خبير علوم النفس في الخلية نسخة غير مشفّرة، أما التقرير الذي أُرسل إلى تل أبيب فتم إرساله بالطريقة المعتادة في تقسيم التقرير ذاته إلى نصفين، كل نصف يكمل معه المعلومة، فلا يمكن لأي شخص أو جهة ــ أيًا كانت ــ إذا ما استطاعت بشكل أو بآخر الوصول إلى نسخة من جزء التقرير أن تتفهم منه أي شيء، فكل جزء من أجزاء التقرير إنما هو مبتور المعلومة تمامًا.

لم يختلف كثيرًا رد فعل تل أبيب عن تصرف رئيس المجموعة في باريس؛ فقد تم عرض التقرير ومستحدثات الموقف على القسم النفسي في الموساد، والذي انتهى إلى أن حليم تصرف بشكل طبيعي تمامًا، وأنه أصبح جاهزًا للسيطرة عليه.

ولكن القسم النفسي قدم توصية في غاية الأهمية: أن تعاون حليم لن يكون معهم بشكل مباشر، وأن محاولة التعامل معه بأسلوب التجنيد المباشر فيه خطورة كبيرة على نجاح واستكمال العملية، وإنما أسلوب التجنيد غير المباشر هو ما يجب أن يتم مع حليم.

الفارق بين أسلوب التجنيد المباشر وغير المباشر هو أن العميل في الحالة الأولى يعمل وبشكل واضح وبعلمه أنه جاسوس يتقاضى أجرًا من الخصم مقابل ما يمدّه من معلومات، أما أسلوب التجنيد غير المباشر فهو أن يكون العميل غير عالم أنه يتعامل أصلًا مع الخصم في تقديم المعلومات، بل إن تقديمه لمثل هذه المعلومات إلى الجهة ــ والتي غالبًا ما تكون مجهولة للعميل ــ إنما هي بعيدة كل البعد عن مساحة الصراع الحقيقي في اللعبة المخابراتية.

وكان القرار النهائي أن التعامل غير المباشر مع حليم ستكون نتائجه أفضل، ويجب أن يظل حليم بعيدًا تمامًا في تعاملاته عن أي عربي مهما كانت جنسيته، وبذلك تم الترتيب للخطوة التالية.

في اللقاء التالي مباشرة بين حليم وجاك، والذي تظاهر أمامه أن حليم بالنسبة له كطوق النجاة في هذه الصفقة، قرر له أنه مضطر للسفر إلى أمستردام لمقابلة الوسطاء نهاية الأسبوع، فعرض عليه إرسال طائرته الخاصة صباح السبت لحضور اللقاء.

قبل حليم العرض ببساطة، فرد عليه جاك:

صديقي العزيز لن تندم على ذلك، هناك رزمة ضخمة من الأموال تنتظرك في هذه الرحلة.

لسبب ما غير معروف لم يستخدم جاك جواز سفره الإنجليزي، وإنما استخدم أوراقه الحقيقية في رحلته إلى أمستردام.

من مطار تل أبيب جُهّزت طائرة خاصة تم صبغها بلون مختلف عن باقي طائرات شركة "العال"، وشمّ على ذيلها شعار لشركة "دونوفان" الخاصة بجاك.

أما المكتب الذي تم فيه المقابلة في أمستردام فكان ليهودي متعهد ثري.

وصل حليم إلى مطار أمستردام، وكان في انتظاره سيارة ليموزين تنقله إلى المكان المحدد للقائه بجاك ووسطاء الصفقة.

فكان كل من مستر "إستيك" وهو عميل من فرع "الكاستا" التابع للموساد الإسرائيلي، ورجل آخر يدعى "بينجامين جولدستين" عالم نووي إسرائيلي يحمل جواز سفر ألماني، وهو من أحضر معه الأنابيب لعرضها على حليم ليقوم بفحصها.

في جلسة ليست بالقصيرة اجتمع الأربعة في غرفة طال فيها النقاش بين حليم وبينجامين حول تفاصيل تركيبات الأنابيب والخامات المصنّعة منها وجودتها وصلاحيتها في الاستخدام وطبيعة استعمالاتها السلمية.

في نهاية الحديث أخذ جاك مستر إستيك وتنحى به جانبًا بحجة مناقشة الأمور المالية للصفقة وكيفية السداد وحساب العمولات وخلافه، تاركين العالِمين وحدهما بعد أن كانت جلسة المناقشة العلمية فيما بينهما سببًا للتقارب.

في مباغتة من بينجامين لحليم سأله عن كيفية علمه بمثل هذه التفاصيل العلمية الدقيقة، والتي يجب أن يكون حاملها عالمًا في الأمور النووية، وكانت طلقة في الظلام أطلقها حليم في وجه بينجامين حينما صرّح له عن وظيفته الحقيقية.

كانت الصفقة شبه جاهزة التفاصيل والاتفاقات تقريبًا عند هذه النقطة، وكان من المفترض أن يغادر كل من إستيك وبينجامين ويتركا جاك وحليم لبعضهما.

لكن وُجّهت دعوة عشاء من إستيك لكل الحاضرين، ورغم عدم إبداء حليم رغبته في ذلك بحجة أنه قد يكون سببًا في تأخره عن عمله صباح الأحد، إلا أن جاك تمسّك بوجود حليم في دعوة العشاء على وعد أن ذلك لن يسبب له مشاكل في مواعيد عمله.

قبل موعد العشاء بقليل اعتذر جاك عن المشاركة في العشاء لسبب يتبع ظروف أعماله، والتقى كل من حليم وإستيك وبينجامين على مائدة العشاء الفاخرة في أحد فنادق أمستردام.

وأثناء جلسة العشاء وجّه إستيك حديثه إلى حليم، وقال له إنهما يعملان على بيع مفاعل نووي لبلدان العالم الثالث للاستخدامات السلمية طبعًا، وإن مشروع مصنعكم في العراق هو مثالي لنا في هذه الصفقات، ويمكننا بيعه لكم أو لغيركم، ونجني سويًا كثيرًا من الأرباح ما دام تمكنتَ من أن تمدّنا ببعض التفاصيل اللازمة نحو ذلك.

ولكن يجب أن يكون هذا الأمر سرًا بيننا دون أن يعرف عنه جاك شيئًا، لأنه ببساطة سيطالب في هذه الحالة بحصته في الصفقات، وهو في الحقيقة لن يكون له أي دور فعّال فيها.

فليس هناك سبب يجعلنا نتحمّله وندخله في مثل ذلك ويكون عبئًا علينا جميعًا.

إن الأدوار محصورة بيننا:

أنت (يقصد حليم) تملك بعض المعلومات عن مشروع بلدك وما تحتاجه في ذلك، وأيضًا باعتبارك شرقيًا ستتمكن وأنت تعمل في هذا المجال من فتح أسواق لبيع المفاعلات النووية لنا في سوق الشرق العربي أو الإفريقي.

أما نحن فنملك المصادر التي تمكّننا من بيع مثل تلك المصانع لدول العالم الثالث.

أما جاك فليس له أي دور في هذه الصفقات تمامًا.

تردد حليم بعض الشيء في الرد على إستيك وقال:

– في الحقيقة لست أدري…

إن جاك كان دائمًا جيدًا تجاهي.

ثم ألا ترون في ذلك أن الأمر يحمل قدرًا من الخطورة؟

دون تردد أجابه إستيك مباشرة وكأنه كان ينتظر منه أن يقول ذلك، فقال له:

– لا، لا…

ليس هناك أي شيء من الخطورة مطلقًا.

لا بد أن لك طريقة آمنة للوصول إلى هذه الأشياء، خاصة ونحن نحتاج أن نستعملها كنماذج فقط لا غير.

ونحن سندفع لك مقابل ذلك جيدًا.

وبالتأكيد لن يعرف أحد غيرنا ذلك، وليس هناك داعٍ أن يعرف أحد غيرنا أصلًا.

ثم إنه يجب عليك أن تعرف أن مثل تلك الأمور غالبًا ما تحدث، فكيف يستطيعون هم معرفة ما يدور؟
لا تقلق…

إن هذا الأمر يحدث دومًا.

رد حليم بشيء من الحذر:

– أعتقد أنا أيضًا ذلك…

ولكن أنا أكره اللعب من خلف ظهر جاك.

بادره إستيك بسؤال قائلًا:

– عزيزي بروفيسير حليم، هل تظن أن جاك سيدخلك في صفقاته؟!!

لا تظن ذلك مطلقًا.

هيا يا رجل، لا تتردد، يمكنك بكل سهولة أن تدير الصفقات معنا وفي نفس الوقت تبقي على صداقتك مع جاك.
وبالطبع نحن سنكون أحرص منك في عدم معرفة جاك بالأمر، لأنه في هذه الحالة بالتأكيد سيطالب بحقه في تلك الصفقات.

لمعت الفكرة أمام أعين حليم، خاصة بعد أن حدثه العالم الموجود والذي يحمل اسم بينجامين عن الأموال الطائلة التي سيجنيها مقابل بعض معلومات في النهاية لا تؤثر على سرية المشروع الذي يعمل من أجله، لأنها في النهاية مجرد معلومات علمية وليست أسرارًا عسكرية.

الحديث عن المال والثروة وتبسيط الأمور أمام عين حليم وضغط زوجته الدائم بأنه لا يملك من الأموال ما يكفي لبناء مستقبل آمن جعل حليم ينظر للموقف بتهاون شديد.

انتهت السهرة بقبول حليم التعاون مع إستيك وبينجامين من خلف ظهر جاك، وكانت المفاجأة لحليم أن يظهر جاك بعد ذلك صحبة العاهرة المحبوبة لحليم "ماري"، وقد أعطاه مبلغ ثمانية آلاف دولار مقابل ما قام به في عملية بيع الأنابيب.

وبالطبع لم يبخل جاك على حليم بليلة حمراء يقضيها صديقه مع العاهرة، والذي وعده أن طائرته الخاصة ستكون في انتظاره في أي وقت، فيمكنه قضاء ليلته مع الفتاة ويأخذ الطائرة صباحًا إلى باريس ويتجه إلى عمله.

قبل عودة حليم إلى باريس كان هناك تقرير تم تسليمه إلى رئيس الخلية في السفارة الإسرائيلية بباريس يحمل تفاصيل اللقاء الذي تم مع حليم في أمستردام، وفي ذات اليوم تم إرساله إلى تل أبيب في مبنى الموساد.

في ذات اليوم تلقى رئيس الخلية في باريس رسالة مشفرة من تل أبيب تفيد ضرورة ابتعاد جاك تمامًا عن المشهد الآن ليترك حليم بعيدًا عن أي تأنيب ضمير تجاه جاك.

أخبر جاك حليم بضرورة سفره إلى إنجلترا للقيام ببعض الأعمال، ولا يدري كم سيستغرق منه ذلك من الوقت، ولكن ترك له رقم هاتف يستطيع من خلاله الاتصال به في أي وقت.