رئيس التحرير
خالد مهران

محمد كمال يكتب: عملية سفنكس الأسرار الكاملة لضرب المفاعل النووي العراقي.. الحلقة الثانية

محمد كمال
محمد كمال

في السادسة صباحًا كان يستيقظ بطرس حليم من نومه كعادته في الاستيقاظ مبكرًا استعدادًا ليوم عمل جديد.

ينهض من على فراشه متكاسلًا وهو ينظر إلى زوجته النائمة إلى جواره، ولا تعبأ أبدًا بدورها كزوجة يجب عليها أن تستيقظ مبكرًا قبل زوجها لتقوم بتجهيز الفطور وكوب الشاي، فكان ينظر إليها متأففًا وهو يلقي بغطاء النوم جانبًا لينهوض متوجهًا إلى الحمام.

يخرج بعد أن انتهى من حمام الصباح وحلاقة ذقنه ليتوجه إلى المطبخ ليصنع كوبًا من الشاي، فيجدها مستيقظة وقد أسندت ظهرها على السرير، فينظر إليها متصنعًا ابتسامة ويقول:

صباح الخير سميرة.

صباح الخير حليم.

أنا صنعت لنفسي كوب شاي الصباح كالعادة.

ألا تمل يا رجل؟ ألا يكفيك ما يحيط بنا من ملل وحياة رتيبة لا جديد ولا تغيير فيها؟ ماذا يعني أنك صنعت كوبًا من الشاي؟!

ينظر إليها حليم متعجبًا متأففًا ويقول:

لا... لا سميرة، أبدًا ما في الأمر شيء. أنت تعرفين أن كل زوجات زملائي لا يستيقظن مبكرًا، ولا يوجد من هن من تصنع الشاي لزوجها صباحًا.

مداعبة سمجة يا حليم، أنا ليس لي شأن بغيري من النساء.

حقًا... أنت لست كباقي النساء يا سميرة.

أتسخر مني يا حليم؟ هذا جزائي أني تركت أهلي وأصدقائي وصاحبتك إلى هذه البلاد المملة الكئيبة؟

سميرة لقد تأخرت على موعد العمل، يمكن أن نستكمل ذلك بعد عودتي.

ترك حليم منزله ولم يكن يشغله كثيرًا سماجات زوجته التي اعتاد عليها، إنما هو الآن يفكر: هل سيلحق بالفتاة الشقراء ذات البنطال الضيق وقميصها الشفاف الذي يخرج منه شق ثدييها الفرنسيين كما اعتاد على ذلك منذ أسبوع تقريبًا كل صباح؟

أسبوع كامل لم يمر فيه صباح دون أن يشاهدها بردائها المثير. فمنذ اليوم الأول الذي شاهدها فيه وهو حريص على أن يلقي نظرة عليها كل صباح.

ولأن حليم كان يسكن بالقرب من ضاحية فيلّا جويف الباريسية، وهي منطقة قليلة السكان، فكان من السهل عليه أن يلاحظها مع قلة الركاب، خاصة أنها كانت تنتظر كل يوم على محطة الأوتوبيس التي ينطلق منها حليم إلى عمله.

أسبوع كامل يجد الفتاة الشقراء الجميلة المثيرة تنتظر على المحطة دون أن تلقي نظرة واحدة تجاهه، حتى تأتي سيارة فيراري حمراء تحمل رقم BB512 بزجاج فيميه لا يظهر من خلفه قائدها. وما إن تأتي تلك السيارة حتى تركب الشقراء بجوار السائق وتنطلق سريعًا إلى مكان لا يعرفه حليم.

كان شهر أغسطس عام 1978 يحمل معه حرارة صيف لزجة محملة برطوبة تبدأ مع صباح اليوم الباكر لحليم، إلا أن وجود الشقراء على محطة الباص كان كفيلًا بأن يُنسيه تلك الرطوبة، حتى كان يوم في ذات الشهر وكان يقف على المحطة، فأتى الباص قبل الفيراري، فتلفتت الجميلة الشقراء يمينًا ويسارًا إلا أنها لم تجد الفيراري الحمراء فاستقلت الباص إلى وجهتها.

في ذات التوقيت يتأخر باص حليم عن موعده قليلًا بسبب حادث مروري بسيط يبعد شارعين فقط من المحطة، عندما ظهرت فجأة سيارة بيجو أمام الباص فيصطدم بها الباص محدثًا إصابة طفيفة بها، وينتهي الموقف عند مشادة كلامية بين سائق البيجو والباص، وبعدها يتحرك الباص في طريقه المعتاد ويدخل على المحطة التي يقف عليها حليم منتظرًا.

لكن الحقيقة، وقبل وصول باص حليم إلى المحطة، تظهر الفيراري الحمراء وينزل منها رجل أشقر له عينان زرقاوان يرتدي ملابس أنيقة، يتلفت باحثًا عن الشقراء الجميلة، إلا أنه لم يجدها، ولكنه وجد حليم الذي كان يلاحظ ذلك، ليقول له بالفرنسية إن الشقراء استقلت الباص وغادرت المحطة منذ قليل.

يلتفت الأشقر الوقور إلى حليم وهو ينظر إليه بحيرة، ولكنه يرد عليه بالإنجليزية:

WHAT?

ينظر إليه حليم هو الآخر ويجيبه بالإنجليزية.

يشكره الأشقر الوقور ويسأله عن وجهته، فيجيبه حليم أنه يقصد محطة مادلين القريبة من سانت لازار، فيجيبه الأشقر بأنها وجهته، ويركب حليم السيارة مع ران.س، والذي سيعرفه حليم باسم جاك دونوفان الإنجليزي.

على الرغم من أن المخابرات العراقية نبّهت على حليم أن يتخذ دومًا طرقًا متعددة للذهاب والإياب، وكان حليم حريصًا على تنفيذ ذلك، إلا أن هناك محطتين كانتا الأساس دائمًا: محطة الباص في ضاحية فيلّا جويف قرب سكنه، ومحطة المترو في سانت لازار، وهناك يستقل القطار ليذهب إلى الشمال في سارسيلي.

جلس حليم، وعرفه قائد السيارة بنفسه أنه اسمه جاك، في حين أن اسمه الحقيقي ران.س.

كان حليم ما زال يمسك على قبضة من الحذر، فلم يخبره شيئًا عن نفسه إلا أن اسمه حليم عراقي الجنسية.

أجابه جاك أنه رجل أعمال إنجليزي الجنسية وجاء إلى باريس لإنهاء بعض أعماله الخاصة في التجارة.

كان على حليم أن يخبره عن عمله هو الآخر استكمالًا لمرحلة التعارف، إلا أن حليم آثر الالتزام بالتعليمات واقتصر على إخباره أنه مجرد طالب عراقي جاء لتلقي بعض العلوم في فرنسا.

كان جاك رجلًا متكلمًا وأثار إعجاب حليم، وقد طلب منه التوقف جانبًا لتناول القهوة سويًا، إلا أن حليم اعتذر بسبب موعد عمله الذي قارب على التأخير.

عرفه جاك مكان إقامته، تلك الفيلا الكائنة على الربوة العالية الهادئة، وأعطاه بطاقة تعريف شخصية قد دون عليها رقم تليفونه للاتصال به.

لفت نظر حليم بساطة جاك في التعامل، خاصة بعد اللقاء الثاني الذي حدث بينهما حينما التقيا وحدهما بناء على موعد مسبق لتناول العشاء في ذلك المطعم الشهير بعد سفر سميرة إلى العراق وتحرر حليم من قيد العودة إلى المنزل بعد انتهاء عمله مباشرة.

لم تكن تحركات خلية باريس فردية على هذا النحو، بل هي تحركات ثنائية في خطين متوازيين.

والسبب في ذلك أن حليم باعتباره مجرد عالم فهو ليس في الأصل بشخصية تُعد من الشخصيات الخطرة التي يجب أن يكون في مكتب رئيس الخلية ملف تعريفي كامل لها.

ولأن تل أبيب أكدت على سرعة الحصول على المعلومات المطلوبة ولكن بكل دقة، ولم تتضح الرؤية حتى الآن إن كان حليم هو الصيد المطلوب أم لا.

لكن الحقيقة أن حليم كان العصفور الوحيد الذي استطاعت خلية باريس التعرف عليه وعلى مكانه، رغم محاولات الإخفاء الدائمة والحريصة من المخابرات العراقية.

بخلاف خط التعامل مع حليم، كان هناك مجموعة أخرى تعمل في اتجاه آخر. هذه المجموعة كانت مهمتها زرع الميكروفونات والعدسات داخل مسكن حليم للقيام بعملية تنصت كاملة على حياته، ولكن كان السؤال عن كيفية الدخول إلى المسكن ووضع المعدات المطلوبة لتنفيذ عملية التجسس على حليم وحياته الشخصية.

لم تكن المشكلة قط في دخول المجموعة إلى داخل مسكن حليم، فهذه المجموعة مدربة جيدًا على دخول أي مكان دون أن يكون لديها مفتاحه الخاص، ولم يكن منزل حليم على هذه الدرجة من التأمين. لكن المشكلة كانت تكمن في شيء آخر، وهو أن المراقبات الخارجية لحليم ومنزله أسفرت عن أن زوجته تكاد لا تغادر المنزل مطلقًا، وليس لها أي علاقات في باريس من أي نوع، وذلك كان سببًا لتأففها من العيش في باريس ورغبتها الدائمة في العودة إلى العراق حيث الأهل والأصدقاء، خاصة أنها لم تأتلف الحياة الأوروبية الباريسية وما بها من انفتاح في العلاقات البشرية يخالف طبيعتها الشرقية.

في يوم من ذات الشهر، وبعد خروج حليم من منزله متوجهًا إلى مقر عمله في مصنع سارسيلي، وقبل عودته بوقت كافٍ، وجدت سميرة فتاة فرنسية في عقدها الثاني جميلة الملامح هادئة الطباع تقوم بطرق باب سكنها، وعرفتها بنفسها: جاكلين بائعة عطور. لكن في الحقيقة كان جاكلين مجرد اسم وهمي لشخصية حقيقية اسمها الفعلي والرسمي "دينا".

جاكلين بائعة العطور طرقت كل أبواب البناية التي تقطن فيها سميرة وباعت لكثير من نساء البناية تلك العطور بالفعل.

كان العرض الذي تقدمه جاكلين مغريًا بالفعل، فكانت تقدم أفخم أنواع العطور الفرنسية بخصم يصل إلى النصف تقريبًا، مع الوعد بهدية أخرى عند الشراء.

كانت جاكلين تحمل معها حقيبة تُعلق على الكتف كبيرة نسبيًا احتوت على كثير من زجاجات العطور الفرنسية وبعض الأوراق والنماذج لكتابة اسم المشتَرِية وبياناتها للحصول على الهدية فيما بعد.

كانت جاكلين متبسطة جدًا في التعامل مع سميرة، وأخبرتها أنها ما زالت طالبة ومن أسرة فرنسية الأصل في الشمال الفرنسي، ورغم أن أسرتها ميسورة الحال إلا أنها تحاول جني مال أكثر، ولها محل لبيع الزهور خاص بها شخصيًا.

سمحت سميرة لجاكلين بالدخول، وتبادلا أطراف الحديث، وأخبرتها سميرة أنها عراقية وأن زوجها جاء هنا من أجل العمل وأن حياتها مملة رتيبة، وشكت لها سميرة أنه لا يوجد مصفف جيد للشعر.

كان شرط الشراء دفع نصف الثمن وملء استمارة الحجز وتحديد موعد آخر للتسليم مع الهدية المجانية.

كان الغرض من زيارة جاكلين هو التعرف على سميرة ومعرفة شكلها جيدًا لأنها كانت محجوبة تمامًا عن الشارع الباريسي.

قبل الموعد المتفق عليه لتسليم ما حجزته سميرة، عادت جاكلين مرة أخرى في زيارة ودية، وأخبرتها أنها لم تستكمل العدد اللازم للتسليم بعد، ولكن في كل الأحوال أخبرتها أن الموعد المتفق عليه ستلتزم به جاكلين في كل الأحوال. وكانت فرصة أخرى لترامي أطراف الحديث بينهما، خاصة بعد أن أخبرتها جاكلين بأنها استطاعت أن تصل إلى مصفف شعر بارع، وأخبرته بمشكلة سميرة، فعرض أن يقوم بمساعدتها، ولكن لن يكون في زيارة واحدة، وعرضت جاكلين على سميرة أن تكون صحبتها إلى هذا المصفف.

امتنّت سميرة كثيرًا لفعل جاكلين، وتقاربا في الحديث أكثر، ووعدتها بهدية مجانية مختلفة عن الباقين.

بعد يومين طرقت جاكلين الباب على سميرة، ولكن هذه المرة قبل موعد وصول حليم إلى منزله بقليل. وكان ذلك مقصودًا أن ترى حليم عن قرب وكذلك يراها هو الآخر.

دخلت جاكلين لتخبر سميرة أن اليوم موعد تسليم العطور التي تم حجزها، وأن هديتها مختلفة عن الباقين.

كانت الهدية علاقة مفاتيح أنيقة، فطلبت منها جاكلين أن تأتي لها بمفتاح المنزل لتضعه لها في العلاقة الجديدة.

كانت العلاقة تحتوي على جزأين: جزء منهم تحتفظ به سميرة، والآخر كان يجب على جاكلين الاحتفاظ به وتسليمه لمكتب الخلية بعد أن تكون قد وضعت المفتاح في هذا الجزء بطريقة معينة تم تدريبها عليها بشكل جيد، خاصة أن هذا الجزء يحتوي على مادة ترسم شكل المفتاح فيها بحيث إنه يمكن استخراج نسخة منه فيما بعد.

لم تجد الخلية ضرورة لاستخدام أساليبها في دخول الأماكن ما دام أن هناك إمكانية لدخول مسكن حليم من الباب مباشرة دون أي مجال للمخاطرة.

استلمت سميرة ما تم حجزه من العطور كما استلمت هديتها المجانية، ورتبت موعدًا مع جاكلين للذهاب إلى مصفف الشعر الذي رشحته لها من قبل.

كان الدور المرسوم لجاكلين في الخطة أن تكون هي الوسيلة لإسقاط حليم بعد الزيارة التي حضرت فيها لتسليم سميرة زجاجات العطور لتلفت نظره بشكل أو بآخر، ولكن فشلت الخطة وتم استبعاد جاكلين من الخطة عندما نقل تسجيل صوتي إلى الخلية بين حليم وسميرة في مشاجرة بينهما على إصرار سميرة العودة إلى العراق خلال أسبوعين على الأكثر، وتهديد سميرة له بأنها لاحظت نظراته لتلك الفتاة بائعة العطور، وأنه يجب عليه أن يزيل من رأسه أي أفكار في هذا الشأن.

كان هذا الحوار كفيلًا لاستبعاد الموساد لجاكلين تمامًا وإنهاء دورها من المهمة، وكان البديل الآخر هو فتاة محطة الباص والسيارة الفيراري الحمراء.