رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

صبري عبد الحفيظ يكتب: «البرهان» و«حميدتي».. معركة وجودية

الكاتب الصحفي صبري
الكاتب الصحفي صبري عبد الحفيظ

استيقظ الشعب السوداني الشقيق والعالم كله على أصوات انفجارات القنابل، وهدير الدبابات والعربات العسكرية في الشوارع، وسط محاولة قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بلقب «حميدتي»، نائب رئيس المجلس  السيادي، السيطرة على العاصمة الخرطوم وعدة مدن أخرى رئيسية.
وتجري الحرب في السودان بلا هوادة، وليس هناك أية بوادر للهدوء تلوح في الأفق، لاسيما مع إصرار كل طرف على الحسم والانتصار في المعركة، ما يعني أنها معركة وجودية ومعادلة صفرية، أو على الأقل هكذا يبدو المشهد المعقد منذ يوم 15 أبريل الجاري،  وحتى الآن.
السودان أمام معركة شرسة قد تأتي على الأخضر واليابس، وقد لا تقوم للدولة بشكلها الحالي قائمة مرة أخرى. وأتمنى أن يخيب هذا الظن، لاسيما أن المعارك تنحصر في منطقة محددة، كما حدث في دارفور في بداية الألفية الثانية، أو كما حدث في جنوب السودان قبل الاستقلال، ولكن المعارك تجري في غالبية المدن والقرى السودانية، وفي الشوارع والمزارع والمصانع وفي المطارات والموانئ، وهذا السبب الرئيسي في ارتفاع أعداد الضحايا من المدنيين، لأن عمليات القصف تتم عن بعد وبطرق عشوائية.
لكن ما الذي أدى إلى تعقد هذا المشهد واحتدام الأمور حتى الوصول إلى المواجهات المسلحة في شتى أنحاء السودان؟ ألم يكن الرجلان الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة، ورئيس مجلس السيادة، والحاكم الفعلي منذ سقوط نظام عمر البشير، والفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، حليفان ويديران البلد قسمة مناصفة معًا؟ ألم يكن الرجلان شريكان في كل الأمور أو كما يقال بالعامية المصرية «زي السمن على العسل»، أو بالأحرى «رأسين في طاقية»؟! 
 رغم أن «البرهان» و«حميدتي» انحازا معًا وبدون تردد إلى الثورة الشعبية السودانية التي اشتعلت ضد نظام عمر البشير، وأدت إلى إسقاطه ومحاكمته في شهر إبريل من عام 2019، إلا أن كلاهما كان يرى أنه الأحق بحصد الثمار، وأن يقبل الآخر بما يقدمه له من باب «الهبة»، وليست قسمة المناصفة، ولذلك كانت هناك مناوشات من تحت الطاولة من حين لآخر، أدت في النهاية إلى تبادل الاتهامات بالتخوين والعمالة والعمل ضد مصلحة السودان.
وتصاعدت حدة التوترات المكتومة بين الرجلين في أعقاب توقيع الاتفاق الإطاري في شهر مارس الماضي، الذي كان يقضي بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، وخروج الجيش السوداني من المشهد، إلا أن البرهان اشترط دمج قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي في القوات المسلحة، خلال فترة سنتين، وأن يظل قائد الجيش أي «البرهان» قائدًا عامًا للقوات المسلحة بعد عملية الدمج، كذلك ينص الاتفاق على نقل شركات الدعم السريع إلى وزارة المالية، ما اعتبره «حميدتي» تجريد من كافة سلطاته ومميزات وأملاكه الاقتصادية. 
هنا استشعر «حميدتي» أن الأمور لا تسير في مصلحته، وأنه قد يتعرض للغدر والإطاحة به من المشهد في السودان، وينزوي إلى الظل، بل قد تذهب به الأوضاع إلى المحاكمة أو أي مصير آخر أشد قسوة، يضاف إلى ذلك أن أنصار الرئيس السابق عمر البشير، من الإخوان والإسلاميين، يتربصون به ويعتبرونه «خائنًا».
لماذا يخشى «حميدتي» هذا المصير؟ الإجابة على هذا السؤال تستدعي العودة إلى تاريخ وطريقة صعود وتكوين الرجل، والعلاقات التي يتمتع بها، وحجم نفوذه وسلطانه في داخل وخارج السودان، خاصة في الدول الأفريقية الحارة، وصولاً إلى الدول الباردة في أقصى شمال الكرة الأرضية في روسيا.
«حميدتي» اسم «دلع» أو «تدليل» لاسم «محمد»، في السودان على غرار «حمادة» أو «حماصة» في مصر أو «حمودي» في دول الخليج، ورغم أنه كبر وشب عن الطوق، وأصبح رجلًا قويا، ويتحكم أو يقود مليشيات قوامها نحو مائة ألف رجل، وإمبراطورية اقتصادية ضخمة تتحكم في مناجم الذهب بالسودان، إلا أنه ظل محتفظًا باللقب، لأن السودانيون ه يرون أنه يمتلك وجهًا طفوليًا.
ينتمي «حميدتي» إلى القبائل العربية في دارفور، وتحديدا قبيلة الزريقات، وهي واحدة من أكبر القبائل في غرب وشمال السودان، ولها امتدادات في تشاد وليبيا. بدأ حياته في الطفولة برعى الأغنام والجمال، وكان شابًا شجاعاً يدافع عن أغنامه وجماله ضد أية محاولات للسطو عليها، واستطاع أن يجمع حوله شبابا آخرين، وكون معهم مليشيا كان مهمتها، حماية قوافل التجارة بين تشاد والسودان وليبيا من قطاع الطرق، وشيئًا فشيئًا، أصبحت هذه المليشيا تقوم بأدوار سياسية وعسكرية، خاصة مع اندلاع حركات التمرد في دارفور.
استعان الرئيس السوادني السابق عمر البشير بهذه الميليشيا التي حملت اسم «الجنجويد» أي «الرجل الذي يركب الجواد ويحمل سلاحًا رشاشًا»، في قمع حركات التمرد في دارفور في عام 2004، وارتكبت هذه الميليشيا أعمال عنف واسعة النطاق، وأحرقت قرى بأكملها، بالإضافة إلى عمليات اغتصاب وقتل وتجنيد الأطفال، وهي الجرائم التي صنفتها لجنة تحقيق أممية بأنها جرائم ضد الإنسانية، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق «البشير»، ولم يكن يستطيع السفر إلى أية دولة خارجية، إلا بعد الحصول منها على «صك الأمان»، ولم يخرج إلا لدول محددة لم توقع اتفاقية المحكمة الدولية مثل روسيا أو سوريا.
أهدت «الجنجويد» النصر على حركات التمرد في دارفور إلى «البشير»، الذي كان يعاني هو والقوات السودانية من حالة الإنهاك بعد معارك استمرت لسنوات طويلة ضد جيش تحرير جنوب السودان، بقيادة جون قرنق.
 قرر «البشير» منح «حميدتي» مكافأة سخية للغاية، و«رد له الجميل» عبر تقليده واحدة من أعلى الرتب العسكرية هي «الفريق»، وضمه هو والمليشيا الخاصة به إلى القوات المسلحة، وسماها «قوات الدعم السريع»، ولكن من دون أن تكون لأحد في الجيش السوداني ولاية عليه، بحيث تكون تابعة للرئيس شخصيًا، أي أنها أصبحت بمثابة «قوات الحرس الجمهوري»، رغم أن «حميدتي» لم يحصل إلى درجة من التعليم العام أو العسكري، وكذلك أعضاء قواته، بمن فيهم شقيقه «عبد الرحيم دقلو» الذراع اليمنى في الدعم السريع.
لم تقف عطايا ومنح البشير عند هذه الحد، بل أطلق يد «حميدتي» في البلاد، ومنحه حرية التنقيب عن الذهب والنفط وغيرها من المعادن، وحراسة الشركات الأجنبية في السودان، وأصبحت لديه إمبراطورية اقتصادية ضخمة، تقدر بمليارات الدولارات، في الوقت الذي يعاني فيه السودانيون من الفقر والفاقة.
مهلًا.. هبات «البشير» لم تقف عند هذا الحد، بل كان يصطحبه معه في جولات الخارجية، واكتسب «حميدتي» علاقات خارجية قوية ومتشعبة في الدول الأخرى، لاسيما الدول الأفريقية وفي ليبيا واليمن وجيبوتي والصومال وتشاد، وبعض دول الخليج وروسيا.
لكن «الحق والحق أقول»، رغم كل هذا السخاء «البشيري»، إلا أن «حميدتي»، خيب ظن الرئيس السوداني السابق، وانحاز إلى جانب الثورة الشعبية مع القوات المسلحة، ورفض طلب قمعها، رغم أن «البشير» أفتى بإباحة قتل ثلث السودانيين، لحقن دماء الثلثين الآخرين.
بعد رحيل البشير وخضوعه للمحاكمة الجنائية بتهم الفساد وقتل السودانيين، بات الساحة شبه فارغة، خاصة أن القوى الثورية المدنية غير منظمة، وليست على قلب رجل واحد، ومنقسمة ما بين الشيوعيين والنقابات، والتيارات الإسلامية. بينما حاولت جماعة الإخوان التي كانت تمثل نظام الحكم في عهد البشير العودة إلى المشهد، واستغلت الأجواء لبث روح الفرقة والفتنة بين الجميع، سواء العسكريين أنفسهم أو المدنيين.
يعتقد «حميدتي» أنه يقود جيشًا مساوٍ للجيش النظامي، وقادر على الانتصار في المعارك، لاسيما أن تعداد قوات الدعم السريع نحو 100 ألف عنصر، وتمتلك عشرات الآلاف من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والعربات العسكرية، ولديه قواعد عسكرية في شتى أنحاء السودان، ويسيطر على أجزاء شاسعة من البلد، ويتمتع بعلاقات قوية في الداخل والخارج.
أطلق «حميدتي» عملية عسكرية واسعة يوم السبت الماضي 15 أبريل، للسيطرة على الحكم فعليًا، وهاجم مقرات القصر الجمهوري والقيادة العامة للقوات المسلحة والإذاعة والتليفزيون، ومطاري الخرطوم ومروي، وهي عملية عسكرية واسعة، التوصيف الدقيق لها في العلوم السياسية والعسكرية «انقلاب عسكري»، أو على أقل توصيف «تمرد عسكري»، على اعتبار أن قوات الدعم السريع كانت جزءً من القوات المسلحة السودانية.
هل ثمة مسارات سياسية للحل؟ بالطبع هناك مسارات سياسية للحل، لكن الرجلين «البرهان» و«حميدتي»، ليس لديهما الرغبة في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، إلا بعد الوصول إلى نقطة معينة، وهي انتصار أحدهما على الآخر، والسيطرة بشكل كامل على الدولة وأجهزة الحكم.
هناك أربعة سيناريوهات للمشهد السوداني، خاصة أن «حميدتي» وفق المعطيات السابق ذكرها، ليس مجرد قائد مليشيا، بل تحت إمرته قوات ضخمة لديها كافة المقومات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
الأول: استمرار العمليات العسكرية والكر والفر، وإطالة أمد الحرب والخراب إلى أطول فترة ممكنة وتحولها إلى حرب شوارع، مما يزيد من إنهاك القوات المسلحة وإفقار وتخريب الدولة والشعب وانتشار الفوضى إلى سنوات.
الثاني: تدخل الأطراف الفاعلة في المجتمعين الإقليمي العربي والدولي، من أجل جلوس «البرهان» و«حميدتي» إلى طاولة المفاوضات، وتقاسم السلطة، إلا أن هذا السيناريو سيكون مؤقتًا، وستظل عملية الاحتقان مشتعلة في القلوب، تحينًا لفرصة انقضاض أحدهما على الآخر. 
الثالث: أيضًا للأسف كارثي،  وهو إلحاق الجيش السوداني هزيمة بقوات الدعم السريع، وتقهقر فلولها إلى دارفور، والتحصن فيها، والبدء في عملية تقسيم للدولة، خاصة أنها تعتبر المعقل الأساسي لهم.
الرابع: تغليب لغة العقل، وأن ينسحب أحد الرجلين من المشهد طواعية، حقنًا لدماء السودانيين، وإعلاءً للمصلحة العامة.
أتمنى أن يتم حسم هذه الأزمة سريعًا، وأن يفلت السودان من مصير الدول العربية التي تعاني من الفوضى والتقسيم منذ عام 2011، ولم تقم لها قائمة حتى الآن، لأن إطالة أمد المعارك، يزيد المشهد تعقيدًا، ويجعل البلد ساحة مستباحة للقوى الدولية، والجماعات الإرهابية والعصابات الإجرامية.
 وما سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال عنا ببعيد.