رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

الركود العظيم" للاقتصاد الصيني يين الواقع والخيال

النبأ

"
تلقي الأرقام الآتية من الصين اهتماما كبيرا من بقية العالم في ضوء عوامل عدة، أبرزها بالطبع قوة البلاد الاقتصادية ووتعاظم تأثيرها الدولي وحجم مساهمتها المتزايد في الاقتصاد العالمي. ومن هذا المنطلق، لم تكن الأرقام الأخيرة الصادرة عن الحكومة بخصوص نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير استثناء.
ووفقا للهيئة الوطنية للإحصاء، نما إجمالي الناتج المحلي للصين بواقع 4.9 بالمئة على أساس سنوي خلال الربع الثالث من العام، وهو أبطأ من نمو بلغ 18.3 بالمئة في الربع الأول و 7.9 بالمئة في الربع الثاني. وإزاء هذا الإداء النزولي، كان من الطبيعي أن يذهب البعض إلى التقليل من شأن هذه الأرقام والتكهن بأن الاقتصاد الصيني يتجه الى تباطؤ محتمل، لكن المثير أنه من بين تلك الآراء من ذهب بعيدا إلى حد اعتبار الأرقام الجديدة مؤشرا أودليلا على ما يروج دون أساس حول"أفول الصين" " والركود العظيم للاقتصاد الصيني" وغيرها.
وبالرغم من أن معدل النمو في الربع الثالث هو الأقل حتى الآن هذا العام، إلا أن الضرورة تقتضي الوضع في الاعتبار المشهدين المحلي والدولي في الصورة. دوليا، يجب الذكر أن هذا التراجع في معدل النمو يأتي وسط بيئة مضطربة في سوق الطاقة العالمي وتداعيات مستمرة لجائحة كوفيد-19، مؤثرة على نمو جميع اقتصادات العالم كافة متقدمة ونامية، كبيرة وصغيرة. ومحليا، تواجه الصين ارتفاعا شديدا في كلفة المواد الأولية ولا سيما الفحم الذي تعول عليه لتشغيل محطاتها الكهربائية، مما أثر إلى حد ما على القدرة الانتاجية في قلة من الأماكن، فضلا عن متاعب في السوق العقاري ناجمة عن شركة "إيفرغراندي"، التي تواجه الإفلاس، إلا أن تقديم البيانات الجديدة أو قراءتها من وجهة نظر تشاؤمية بحتة في ضوء هذه الخلفية يرسل إشارة خاطئة عن الواقع الحقيقي لثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وهنا، لابد من التأكيد على عدة حقائق أو نقاط بارزة يمكن أن تضح الثقة بالاقتصاد الصيني واستمراره كعامل مستقر للتعافي العالمي:
أولا، إن معدل النمو خلال الأرباع الثلاثة الأولى مجتمعة لا يزال يحوم حول رقم مرتفع عند 9.8 بالمئة، وهو ما يتجاوز بشكل كبير هدف الصين السنوي من النمو "أكثر من 6 بالمئة"، حتى أن صندوق النقد الدولي يتوقع أن ينمو الاقتصاد الصيني بنسبة 8 بالمئة في عام 2021، بينما سيتباطأ نمو الاقتصاد العالمي إلى ما نسبته 5.9 بالمئة. وقال فو لينغ هوي، المتحدث باسم الهيئة الوطنية للإحصاء مؤخرا، إن التوقع بنمو الاقتصاد الصيني بنسبة 8 بالمئة يعد أعلى من نظيريه للاقتصاد العالمي والاقتصادات الكبرى، ما يدلل على تفاؤل المجتمع الدولي إزاء آفاق الاقتصاد الصيني. وتوقع صندوق النقد الدولي أن تنمو الاقتصادات المتقدمة بين 5.6 بالمئة و5.2 بالمئة.
ثانيا، إن الاقتصاد الصيني لا يزال مرنا ولديه محركات نمو جديدة تتقدم. وخلال الأرباع الثلاثة الأولى من العام، ورغم العديد من الرياح المعاكسة، عاد الاستهلاك المحلي إلى قوته، وحقق قطاع التصنيع فائق التكنولوجيا أداء قويا، واستمرت مساهمة قطاع الخدمات في النمو الاقتصادي الإجمالي في الارتفاع. ويلاحظ من الأرقام الرسمية أن إنتاج قطاع تصنيع التكنولوجيا الفائقة قفز بواقع 20.1 بالمئة على أساس سنوي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام. وعلى صعيد الطلب، ارتفعت مبيعات التجزئة للسلع الاستهلاكية في الصين بنسبة 16.4 بالمئة على أساس سنوي خلال الأرباع الثلاثة الأولى من العام. وواصل سوق التوظيف استقراره بشكل عام، حيث استحدثت البلاد 10.45 مليون وظيفة جديدة في مناطقها الحضرية خلال فترة يناير- سبتمبر، محققة بذلك 95 بالمئة من الهدف السنوي.
في الوقت نفسه، أظهرت التجارة الخارجية للصين مرونة قوية على الرغم من الاضطرابات التي شابت سلاسل التوريد العالمية. وحافظت صادرات الصين إلى اقتصادات العالم الرئيسية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، على نمو مزدوج الرقم في الأرباع الثلاثة الأولى. على صعيد الاستثمار، واصل المستثمرون الأجانب توسيع وجودهم في الصين، حيث ارتفع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر المستخدم فعليا في البر الرئيسي الصيني بنسبة 22.3 بالمئة على أساس سنوي خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري.
ثالثا، يقظة القيادة الصينية للرياح المعاكسة والاستجابة السريعة للمشكلات مع مواصلة مسيرة الإصلاحات. لن تسمح القيادة القوية للحزب والحكومة بتفاقم مشكلة أو أزمة ما، فبمجرد اكتشاف أي مشكلة، تتصرف القيادة الصينية على الفور. وبينما أرجع خبراء أجانب التباطؤ الحالي للاقتصاد الى مشكلة الطاقة وأزمة العقارات، يعمل صانعو السياسات في البلاد بنشاط على مواجهة الصعوبات الراهنة في القطاعين فضلا عن حفز الاستهلاك وتسهيل التجارة الخارجية، الأمر الذي يجعل من هذه تحديات قصيرة الأجل. وقد اتت استجابة الصين السريعة لمشكلة الطاقة بثمارها سريعا، حيث تراجعت أسعار النفط يوم الأربعاء، بعد أن كثفت الحكومة الصينية جهودها لكبح الارتفاع القياسي في أسعار الفحم، وتشغيل مناجم الفحم بكامل طاقتها لتخفيف أزمة نقص الطاقة. ونزلت أسعار الفحم الصيني وغيره من السلع الأولية في التعاملات المبكرة، مما أدى بدوره إلى انخفاض أسعار النفط بعد ارتفاع طفيف في وقت سابق اليوم. وتظهر بيانات للهيئة الوطنية الصينية للإحصاء أن توليد الطاقة في البلاد تسارع في سبتمبر، ليرتفع بنسبة 4.9 بالمئة على أساس سنوي بالمقارنة مع العام السابق.
وقد حذر المتحدث باسم الهيئة الوطنية للإحصاء "تزايد حالة عدم اليقين في البيئة الدولية والتعافي غير المتكافئ في الاقتصاد المحلي"، متعهدا باستمرار الصين في " اتخاذ مختلف التدابير للحفاظ على عمل الاقتصاد في نطاق معقول"، وهو ما يؤكد على يقظة القيادة الصينية إزاء التحديات.
رابعا، بالنظر الى المستقبل، سيواصل الاقتصاد الصيني حفاظه على زخم نمو مستقر نسبيا خلال الربع الرابع من العام رغم الضغوط النزولية ويتوقع أن يعود إلى مساره الذي كان عليه قبل فيروس كورونا. فالسلطات الصينية تضع دائما في الاعتبار العناصر الدورية والهيكلية للاقتصاد على حد سواء، وتقدم الدعم بسياسات محددة الأهداف للبقع الاقتصادية الضعيفة، مع تفادي إغراق الاقتصاد بالسيولة، والاستمرار في تحسين الهيكل الاقتصادي الصيني. وتولي بكين اهتماما وثيقا لتحقيق التوازن بين تحفيز الانتعاش على المدى القصير وتعزيز النمو على المدى الطويل وستواصل الصين إصلاحاتها العميقة لتوسيع وصول الاستثمارات الأجنبية إلى الأسواق، وتحسين بيئة الأعمال فيها، وتعزيز التعاون التجاري متعدد الأطراف.
وقدرت أحدث التوقعات بشأن الناتج المحلي الإجمالي السنوي للصين في عام 2021 من قبل صندوق النقد الدولي، وبنك التنمية الآسيوي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، نموا بمعدل 8 بالمائة أو أكثر، وهو معدل مرتفع بالطيع مقارنة بالسنوات القليلة الأخيرة التي كان النمو يتراوح فيها بين 6 و7 بالمئة، وهو ما من شأنه أن يمنح بكين مساحة أكبر للتعامل مع القضايا الاقتصادية المزمنة أو المستمرة منذ فترة وضخ المزيد من الثقة بالانتعاش العالمي وتوفير المزيد من فرص التنمية للاقتصادات الأخرى.