رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

معرفة الذات

الدكتور أحمد على
الدكتور أحمد على عثمان


إن فكرة الإنسان عن ذاته من أهم الصور الذهنية التي تداعب عملياته العقلية فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد خلق الإنسان من جسم طيني محسوس، ونفخ فيه سر الحياة الأعظم، وهى الروح في مشهد الملائكة الكرام، ثم أنزل الله هذا المخلوق إلى العالم المحسوس، وهو الأرض؛ وذلك ليجد الإنسان من الانسجام مع مكونات هــذا العالم ما يوفي بمعادلة التكليف الكبرى، وقد أكد الله على أن استخلاف هذا المخلوق إنما سيكون في الأرض ،


قال سبحانه وتعالى :

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ).

ولما تعلقت الإرادة الإلهية بجعل الإنسان في الأرض, خفيت حكمة خلق الإنسان على ملائكته, المستغرقين في عبادته, المتمحضين لطاعته, الذين تجردت طبيعتهم عن الشهوة الدافعة, وعن حب المعرفة الذي يمزق في سيره الفاتح حُجُب المجـهول، فيجليه ويكشـف خفاياه.

وقد أودع الله هـذه القوى في الإنسـان، حتى ينجح في المهمة التي أوكلها الله إليه, كما اقتضت عنايته أن تعهده برسالاته المساعدة له على الجمع بين معرفته بربه, وبين شحذ قواه ومداركه ليكتشف مكنونات الكون وقوانينه وطبائع المخلوقات.

فالإنسان جسم محسوس يأكل ويـشرب، ويتعب وينام، وروح تتذوق المعاني والجمال، كما أن الأرض والبحار والجبال والسحاب والأشـجار والطيور والحيوانات و ....إلخ، كل هذه الأشياء هي عناصر العالم المحسوس التي ترسل إشارات لروح الإنسان، مما يُشعر الإنسان باحتياجه للكون المحيط به من الجانب الحسي، وكذلك من الجانب المعنوي.

وفكرة الإنسان عن ذاته بداية الصلاح؛ إذ إنها تعتمد على تجنب الأخطار وتبتعد عن عوامل الإسراف في الذاتية.

فعلى الإنسان أن يجنب نفسه الخطر في وقوع الادعاء، وأن يحترم علاقته مع الغير، فيكون إنسانًا اجتماعيًّا، وأن يضع لنفسه المعايير التي يلتزم بها ولا يحيد عنها مهما ضاقت به السبل؛ فلا تضعف عزيمتك، ولا تستسلم للعوامل الهشة عندما تتعرض لشتى المواقف التي لم تعهدها من قبل.

والذات المرنة تتعامل مع المواقف والخبرات بطواعية لتفهم. والذات الجامدة ترفض أي تغير ولا تعترف بالجديد، ولا تفكر في الحلول البديلة الملائمة.


والواقع أن الشخصية المرنة القوية تحتاج إلى الدعم الذي يجعل صاحبها يتكيف مع المواقف الجديدة ويتقبل الخبرات غير المألوفة عليه بوعي وفكر وإدراك وينتقي منها الملائم ويرفض غير الملائم.

والذات القوية هي التي تتحكم في رغباتها بأن تكون قادرة على التنازل عن ملذَّاتها وانفعالاتها في سبيل ثواب آجل.

ونظرة الإنسان للمستقبل وتحمله للمسئولية، وحسابه لنفسه ـ تغذي مشاعره وتحدد له طرقه ومسالكه؛ فيستمتع بالحياة ويرضى عن عمله، ويتطلع إلى كل ما من شأنه أن يجعله في الصورة والفعل الذي يليق بالإنسان.

إن البحث عن البدائل الغير ملائمة بأن يجد الإنسان مبررًا وبديلاً يعوض به المشكلة أو الخسارة ما هو إلا اختلاق للمعاذير في شكل البراءة الساذجة؛ فهذا نوع مرفوض لا يتغلب عن الصعوبات.

الحقيقية ويستمر في مجموعة من الأكاذيب يراها حلولاً بديلة، وهي في واقع الأمر لا تغني ولا تسمن من جوع.


إن الهروب من المواجهة والمكاشفة بالحقائق ـ تجنبًا لإثارة المشكلة ـ تجعل صاحبها يعيش في كهف من الغموض يجعله لا يستعذب رؤية ضياء الصراحة ونصاعة الحق.

والتكيف السوي هو الذي يدفع صاحبه لتحقيق المواءمة بين ذاته وذوات الآخرين.


ويتجسد شعور الذات بالغربة عندما يفقد الإنسان التعامل مع الآخرين؛ فلا يستشعر قيمته الحقيقية، ويستشعر الوحدة والعزلة فينسى طبيعة العلاقات الاجتماعية ليشعر بالانهيار والشعور بالعجز وقلة الحيلة وعدم القدرة على التصرف الواعي المتزن.
والإنسان يريد دائمًا أن يكون سعيدًا هادئًا بعيدًا عن المخاطر والمصاعب، وأن يمحو من حياته المخاوف والوساوس، ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر التطلع المستمر نحو النجاح والإنجاز؛ ففيها تحقيق لذاته


وتجسيد لشخصيته واعتراف بإمكاناته.

إن الذات التي تفكر في المصلحة الخاصة أو المصلحة المشتركة فإنها تفكر في صفقات مؤقتة ينتهي أمرها إذا ما انتهت هذه
المصلحة؛ حيث تبعد بعدها عن المسالك والدروب الأخرى التي تحقق لها مصلحة جديدة.

والذات التي تقع عليها الأشياء عن طريق الآخرين دون أن تشغل نفسها أو تحاول أن تتفاعل مع المواقف ـ تعد نمطًا اتكاليًّا لا يقوى على شيء ويطلب من الآخرين كل شيء.


والذات التي تترك نفسها لتعصف بها رياح المواقف ولا تريد الاعتراض تتحول إلى سلعة تباع وتشترى، تحركها دوافع وحاجات، وتلعب بها الظروف المحيطة.

أما الذات التي تريد أن تحصل على كل شيء مهما كانت الوسيلة ـ فالغاية عندها تبرر الوسيلة ـ تستخدم القوة تارة والدهاء تارة أخرى. فهذه لا تلتزم بالمعايير الخلقية وتشعر بالمعاناة من جراء أفعالها.

وتتأرجح راحة البال بين الحب والكراهية؛ فأسلوب الكراهية يمثل علاقة منفصلة تشيع الفرقة وتؤدي إلى الانعزال، ولا يحظى صاحبها براحة البال، وتؤدي إلى التمزق الداخلي، وهو سلوك سلبي يؤدي إلى فعل الشر.

هذه الذات تظن بالظلم المضغوط يحاول أن ينفس عن نفسه؛ فيفكر في أخذ حقه، فيوسوس له الشيطان بالانتقام من ذلك الذي ضغط عليه وحاول بقدر المستطاع أن يقلل من راحته وينغص عليه عيشه ووقته وسعادته.

وحينما نريد توثيق العلاقة فإنه لابد أن نستدعي رفيق الحب الأمين، وهو الصديق الأوحد الذي يلازم الذوات في الترحال؛ فهو بمثابة الظل الذي لا يفارقه؛ ليعلن له في كل لحظة عن ضرورة أن العشرة لا تهون، وأن راحة البال هي المودة والألفة والتسامح والرحمة والإعراض والبعد عن الانتقام.

إن الذات قد يبكيها الجفاء وضياع العشرة.

والمتأمل لآية التسخير:

{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ...}.

الجاثية: (13).

يعرف حقيقة ذاته، وأن له مجموعة من القدرات عن طريقها يغير، ومن خلالها يوظف ويرقى بنفسه وبمَن حوله.
والذات الواعية هي التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

قال الحق تبارك وتعالى:

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...}.

آل عمران: (110).

والذات الغير مطمئنة هي التي تتصف سلبيًّا بالضعف أمام رغباتها ودوافعها الغريزية في مواجهه خطر الشهوة. وكثيرًا ما يسبب للإنسان متاعب؛ لأنه ينساق وراء الشهوة وما يصاحبها من ماديات؛ فلا يفكر في الآخر، ويقع فريسة لهذه الشهوة، ولكن الله لا يعاملنا بما لا نستطيع تحمله أو ما لا نستطيع الوقاية منه أو الوفاء به؛ فمعاملة الخالق معاملة تتصف
بالرحمة.

قال تعالى:

{...وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}

.النساء: (28).

وقال جل شأنه: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا...}.

البقرة: (286).

ولقد تناول دستورنا الذات الإنسانية تناولاً تكامليًّا، وقد وصف القرآن أن الإنسان صاحب النفس المطمئنة هو الذي يمزج بين طاقاته كلها، ويعمل على ربطها بحيث تجعل الإنسان الفرد بمثابة طاقة متسقة وفعالة؛ فهي قوة دافعة إلى الأمام.

وهذه الذات لابد على الإنسان أن يكشف عن طريق معرفتها ماهيتها ويرقى على ضوء هذه المعرفة إلى أن يستشف جوهر هذه المعرفة، وهي البصمة المشرقة التي وهبها الله لنا؛ فنراه يبحث وينقب عنها؛ ليحاول أن يعرف خفاياها وأسرارها؛ فهي لغز من الألغاز.

قال تعالى

:{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}.

الذاريات: (21).

والذات سرها في داخلها، وداخلها في ذاتها، وذاتها من جوهرها، وجوهرها من نفسها،

وهذه النفس تمثل خير ما فينا؛ فهي بمعنى تمثل الروح والعقل والخيال والذوق واللمس والقلب.
وذاتنا الداخلية قد ترانا ولا نراها، ومطلوب منّا أن نراها ونسبح في ظاهرها وفي الجسم والعين والأذن
واللسان، وداخلها سر من أسرار الوجود ننقاد إليه طوعًا أو كرهًا.

ونعيش معها إما عن طريق الغموض وراء المادة أو الوضوح أمام حقائق هذه الذات المقدرة من القادر بقدرته، ودونت منذ الأزل حتى تنمو وترتفع إلى الملكوت الأعلى

فتعود إلى الله سامعة لنداء الحق:

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي}. الفجر: (27: 30).


والخلود من أهم الموضوعات التي يتفكر فيها مَن يؤمن بالله تبارك وتعالى؛ فخلق الله للحياة الأبدية في الجنة

اللهم حسن ذات بيننا واجمع شملنا وانصرنا ولا تنصر علينا يارب سعادة الدارين لجميع الإنسانيه