رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

«السوشيال ميديا» والانتحار.. النهايات المأساوية تبدأ بـ«like» و«comment» و«share»

السوشيال ميديا
السوشيال ميديا

ازدادت حالات الانتحار في مصر، مؤخرًا، بطريقة مقلقة، لدرجة الحديث عن مسئولية الدولة عن هذه الوقائع الخطيرة، خاصة مع سوء الأوضاع الاقتصادية، والأزمات الطاحنة التي تضرب الأسر المصرية، والتفكك والعزلة باعتبارهما من الأسباب وراء التخلص من النفس.

وقال الدكتور على عبد العال، رئيس البرلمان: «وفقا للمعدلات العالمية مصر من الدول القليلة فيها نسبة الانتحار لأسباب يمكن أن تكون دينية أو اجتماعية ترسخ فكرة التضامن داخل الأسرة والمجتمع»، موضحا أن الولايات المتحدة الأمريكية من الدول الأعلى في هذه الظاهرة، وكذلك فرنسا، وهما دولتان متقدمتان.

ومع الطفرة التكنولوجية التى يشهدها العالم، وجهت اتهامات لـ«السوشيال ميديا» بمسئوليتها عن تزايد حالات الانتحار فى الفترة الأخيرة. 

ففي دراسة بحثية أجرتها جامعة «سان بطرسبرج» حول تأثير منشورات فيسبوك على روّاده، فرضت نظريًا أنك تعرضت لمجموعة من خمسة منشورات تسبب السعادة، وخمسة منشورات أخرى حزينة أو تدعو لمشاعر سلبية في العموم، وطرحت سؤالًا: هل يعني ذلك أنك سوف تشعر بحالة متعادلة بسبب التعرض لكم متماثل من المشاعر عبر فيسبوك؟

في تلك النقطة تقول الإجابة التجريبية: "لا"، فمع كل 10% زيادة في التجربة الإيجابية على فيسبوك تنخفض الأعراض الاكتئابية بقيمة 4% فقط، لكن مع كل 10% زيادة في التجربة السلبية على فيسبوك ترتفع الأعراض الاكتئابية بقيمة 20%، في الحقيقة فإن إحدى المشكلات البحثية في مجال علم نفس اللذة (Hedonic Psychology) هي التأثيرات السلبية التي لها قدرة أكبر على التعديل من حالاتنا النفسية، فعلى مرضى الاكتئاب تحديدا تطوير إستراتيجيات فعّالة لقصر التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي ضمن نطاق محدود للغاية.

كذلك فإن إحدى العادات التي ترفع بشكل سلبي من تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي هي ما تسمى بالتمرير السلبي (Passive Scrolling)، ويعني أن تستمر بلا هدف واضح في تحريك الصفحة الرئيسية لوسائل التواصل الاجتماعي، فقط تتنقل من منشور لآخر ومن صورة لأخرى أو من فيديو لآخر بشكل يبدو عبثيا ولساعات طويلة، هذه الحالة تعني أنك أصبحت أكثر ارتباطا بشكل أصبح من الممكن اعتباره "قهريا" مع تلك التطبيقات، بحيث لم تعد تتمكن من منع نفسك من متابعتها حتّى مع عدم وجود هدف لذلك.

كذلك هناك سبب آخر وهو "المقارنة الاجتماعية السلبية"، فقد يرى الفرد بأن حياة كل شخص آخر أكثر سهولة ومتعة وأكثر نجاحا وشعبية منه، بجانب وجوده وحيدا لفترات طويلة ما يتسبب في شعور عميق بالوحدة، وهو واحد من أهم العوامل التي قد تدفع شخصا ما لتكوين أفكار انتحارية على المدى الطويل، يمتد هذا التأثير ليصبح أكثر سلبية في سنوات عمرك الحرجة، وهنا نقصد المراهقة.

وفي دراسة بحثية أخرى قدمتها «جين توينج»، من جامعة سان دييجو، ألمحت إلى الدور القوي الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في حياة المراهقين، وهي فئة عمرية حرجة، حيث أصبحوا أقل شعورا بالأهمية، وأقل استمتاعا بالحياة، وأقل انخراطا في الأنشطة المنزلية وفي العلاقات سواء كانت على مستوى الصداقة أو العلاقات العاطفية، وجدت توينج كذلك أن هؤلاء الذين يستخدمون الهاتف الذكي مدة أكثر 3 ساعات في اليوم هم أكثر عرضة، بمقدار الثُلث، للشعور باليأس، الإحباط، الوحدة، أو التفكير في الانتحار. 

لهذا السبب تعتبر توينج أن العام 2007، ونقصد هنا تحديدا تلك اللحظة التي ظهر فيها جهاز "آيفون" للمرة الأولى، كان مُفردة اجتماعية اختلّت بعدها نسب كل المعايير المهمة للسلامة النفسية. على سبيل المثال، بعد هذه النقطة ارتفعت نسب الاكتئاب والانتحار بين المراهقين بدرجة 50%، لم تقدم توينج روابط سببية بين الحالتين، لكن العام 2007 لم يحتوِ على أي شيء جديد في حياة المجتمع الأميركي، على وجه الخصوص كعيّنة لتجاربها، إلا ظهور الآيفون، وانتشاره المتسارع فيما بعد.

إن تلك الحالة المجتمعية الغاية في الغرابة والتي نسميها بـ "معا وحدك" (Together Alone)، وتعني أن يوجد كلٌّ منّا معا، في الحجرة نفسها، في جلسة عائلية أو تجمع للأصدقاء، لكن على الرغم من ذلك يعيش كل منّا في عالمه الخاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

بيَّنت الدراسات النفسية أن أكثر الأفراد تعرضًا لخطر الإصابة بمرض إدمان الإنترنت، هم الأفراد الذين يتميّزون بسمات الشخصية الضعيفة: العزلة الاجتماعية، الفشل في إقامة عَلاقات إنسانية طبيعية مع الآخرين، المعاناة من مخاوفَ غامضةٍ، قلة احترام الذات، الخوف من أن يكونوا عُرْضَة للاستهزاء أو السخرية من قِبَل الآخرين. هؤلاء هم أكثر الناس تعرضًا للإصابة بهذا المرض ذلك لأن العالم الإلكتروني قدَّم لهم مجالًا واسعًا لتفريغ مخاوفهم وقلقهم وإقامة عَلاقات غامضة مع الآخرين تخلق لهم نوعًا من الأُلْفة المزيَّفة، فيصبح هذا العالم الجديد الملاذَ الآمِن لهم من خشونة وقسوة عالم الحقيقة كما يعتقدون حتى يتحول عالمهم هذا إلى كابوس يهدِّد حياتهم الاجتماعية والشخصية للخطر.

من السمات المميزة للشخصية الضعيفة هي الخجل الشديد غير المنطقي؛ فهو يخجل من كل شيء؛ من التحدث وإبداء الرأي، والمشاركة في النشاطات الاجتماعية، فيجد في الإنترنت والغوص في أعماقه ملاذا للتنفيس عن مكامن هذا الخجل، فهو يختبئ وراء شاشة صغيرة لساعات طويلة ليتواصل مع عالم مغاير لعالم البشر بحيث لا يضطر إلى التكلم أو التواصل المباشر مع أحد. 

كما يكون في حالة انبهار دائم بكل شيء حتى ولو كان هذا الشيء غير مميز، وعادة ما تكون حالة الانبهار هذه غير دائمة لكثرة الأشياء التي تثير إعجابه. كلّ ذلك يجعل الفرد، صاحب الشخصية الضعيفة في حالة التبعية القوية للإنترنت الذي شكّل بالنسبة له العنصر المساعد والمساند في حياته اليومية؛ الصاحب اللدود الذي أغناه عن الحياة الاجتماعية الطبيعية.

من البديهي أن تتدهور حالة الأفراد ذوي الشخصية الضعيفة أكثر فأكثر، على المستوى النفسي والاجتماعي لأن الإنترنت لا يساعده على تخطي حاجز الخوف لديه ويسهّل عليه تكوين عالم وهمي فارغ يدفعه إلى الوقوع في براثن الإدمان والانعزال والانسحاب، وتصبح شخصيته قاصرة وسلبية وعاجزة عن الاندماج في الحياة كالآخرين.

في هذا السياق، قالت الدكتورة سوسن الفايد، أستاذ علم النفس الاجتماعي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إن «السوشيال ميديا» قد تساهم في عزلة وانطوائية المستخدم، وقد تكون دافعًا من دوافع الانتحار فيما بعد؛ فالمستخدم هنا فشل في النجاح في المجتمع الافتراضي، ولم يجد العوض الذي كان ينشده بعدما فشل في العالم الواقعي فهو بذلك لا يجد مجتمعا يعيش فيه فقد يرى أنه ليس له أهمية من خلال «اللايك» والتفاعل بـ«الكومنتات» فكثرتها يعزى داخله شعوره بالاهتمام. وعلى الجانب الآخر «قلة التفاعل» يعكس بداخله شعوره بالفشل في التفاعل مع العالم الافتراضي فـ«اللايك» يعبر عن قبول المتلقي لما يقوم به الشخص من أفعال ويعكس شخصيته وبالتالي عدم التفاعل يؤثر تأثير مؤقتًا.

وتابعت «الفايد» أن تأثير شبكات التواصل الاجتماعي وتسببها في انتحار بعض الشباب، ليس العامل الرئيسي؛ ولكنه سبب ضمن أسباب أخرى، ولا نغفل أنه سبب هام، فمواقع التواصل قد تزيد من حالات العزلة والانطواء وبذلك تزيد دوافع الانتحار لديه أنه باختياره أماكن بعينيها لينتحر بها فهو بذلك يريد أن يصل رسالة بموته أنه ضحية فهو بذلك يُحمل المجتمع انتحاره وتحميل مسئولية ذلك للآخرين.

أيضا في هذا الإطار يقول الدكتور محمد هاني، استشاري الصحة النفسية والعلاقات الأسرية، أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت مواقع فشل وتدمير وليست تواصل؛ فقد دمرت العلاقات بين الناس، وفي الآونة الأخيرة أصبح معظمهم يشتكي الهموم والضغوط، ولذلك فإن «السوشيال ميديا» تؤثر تأثيرًا سلبيا فكثير من الناس أصبح ينظر إلي «عيشة» الآخرين، وما وصل إليه فغصب عنهم يتمنون أن يعيشوا نفس الحياة، وبالتالي لا يستطيعون ويتأثرون سلبًا، ويعيشون في صراعات نفسية كبيرة جعلتهم يحيون بشخصيات غير شخصياتهم الحقيقية فيظهرون على الـ«فيسبوك» بصورة مغايرة تمامًا لحقيقتهم.

وتابع «هاني» انتشار فيديوهات التعذيب والقتل يؤثر تأثيرًا سلبيًا ويصدر طاقة غير إيجابية للآخرين فحينما قمنا بعمل «استبيان» وجدنا أن مواقع التواصل الاجتماعي مصدر من مصادر مرض الاكتئاب، لأن الكثيرين يتأثرون تأثيرا مباشرًا ويصدقون كل الشائعات المنتشرة على تلك المواقع فهؤلاء ذوو شخصيات ضعيفة ويكونون عرضة للتأثر ولو بكلمة.

وأكمل«هاني» أن مرحلة المراهقة هي المرحلة التي يكون فيها الشاب عرضة للتأثر بما يراه فهو يريد أن «يقلد» ما يشاهده، وبذلك يكون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب فمكونات شخصية لم تكتمل بعد ويعاني اضطرابًا في هويته فهو لم يصل إلى مرحلة النضوج بعد.

وشدد «هاني» أن قرار الانتحار لا يأتي فجأة فمن قبله هناك تراكمات وضغوط ويعاني من اكتئاب ثم مرحلة الاكتئاب الحاد ثم الميول الانتحارية ثم مرحلة، الانتحار فقد يشاهد الشخص فيلمًا ما يعرض طريقة الانتحار وهذا الشخص لديه ميول انتحارية، فيطبق ما شاهده في ذلك الفيلم دون تفكير فقد تأثرا تأثيرا كبيرا بما رآه و«قلد» دون وعي وإدراك منه فهو «شبه» ميت إكلينيكيا ويعيش في غيبوبة نفسية. 

وتابع «هاني»: ننظم أنا ومجموعة من الأطباء النفسيين مبادرات تحت اسم «بنحب مصر» لتوعية الشباب وتأهيلهم نفسيا ليعيشوا حياة صحيحة نفسيًا وزرع الأمل والتفاؤل بداخلهم وتقوية ثقتهم بأنفسهم وعدم التأثير سلبًا في شخصيتهم مع التركيز على دور الأسرة واهتمامها بأولادها وتقديم الاحتواء النفسي والنصائح لهم.