رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «10»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب





كان هذا هو العالم الذي خرجت إليه مساء 18 أكتوبر سنة 1932 وكانت هذه هي الظروف السياسية والأطراف الفكرية التي أحاطت بي، كان أبي وأمي يحيطان أولادهما - على عادة أسرة ذلك الزمان ذات الجذور الريفية - بطاقة هائلة من الحب والحنان إلى جانب الرعاية المادية، ولا أذكر طبعًا من سنوات الطفولة الأولى وقائع محددة سوى الدفء الأسري مع الصرامة التي كانت أمي خصوصًا تلزمنا بها فيما يتعلق بقواعد السلوك الاجتماعية نحو بعضنا البعض ونحو الغير، وكان أول وعي أذكره هو دخولي روضة أطفال قصر الدوبارة سنة 1937 وأنا طفل دون الخامسة، فقد كانت هذه أول مرة أخرج فيها من محيط الأسرة وأبقى وحدي مع الأطفال الآخرين عدة ساعات يوميًا.




كانت هذه المدرسة من مدارس الأطفال المميزة لأبناء الطبقتين العليا والمتوسطة ويقع مبناها أمام مجلس الوزراء بشارع القصر العيني حاليًا، وقد حولت فيما بعد إلى مقر لجريدة المصري الوفدية ثم لجريدة الجمهورية بعد وقوع الانقلاب العسكري سنة 1952.



وكانت مديرة هذه المدرسة سيدة من أشهر سيدات مصر عندئذ ومن عائلة عريقة فقد كانت المرحومة السيدة زكية عبد الحميد سليمان - التي كنا نسميها أبلا زوزو - شقيقة المرحوم عبد الحميد سليمان باشا وكيل وزارة المعارف -  التربية والتعليم فيما بعد - وظللت في هذه المدرسة الأولى ثلاث سنوات حتى تخرجت منها في صيف سنة 1940 بعد إندلاع الحرب العالمية الثانية بأشهر قليلة.




وكان من مظاهر عناية روضة أطفال قصر الدوبارة بأطفالها أن تمنحهم شهادة جميلة عند التخرج أرفق صورة منها بملحقات الكتاب، وكنت فخور جدًا وقتها بهذه الشهادة حيث كانت ترتيبي الثالث على فصلي البالغ سبعة عشر طفلا، كما ورد بالشهادة أنني كنت خلال دراستي مرتبا ونظيفا وميالا للزعامة !!



خلال هذه السنوات منذ مولدي حتى إندلاع الحرب العالمية الثانية في أول سبتمبر سنة 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جانب وألمانيا ودول المحور من جانب آخر، كانت هذه الأحداث في مصر وفي العالم المحيط تتلاحق.




كانت الغضبة الشعبية في مصر نتيجة إسقاط دستور سنة 1923 تتصاعد، وكانت المظاهرات الشعبية من الطلبة والعمال وكافة الفئات تزداد سخونة حتى انفجرت سنة 1935 في ثورة شعبية سلمية كان طلبة جامعة فؤاد في مقرها، وبدأت بعض الأصوات تدعو للجمهورية، وكان حزب الوفد مازال هو قائد الكفاح الشعبي، ولكن في إطار سلمي يدعو لإعادة دستور سنة 1923 للحياة مع بقاء النظام الملكي على أن تكون ملكية دستورية.




بدأ الجزع يصيب الملك فؤاد وسلطات الاحتلال البريطاني نتيجة تطور الأحداث حول مصر، ففي إيطاليا كان النظام الفاشي التي أرسى موسوليني قواعده يرسخ، وكان هناك تقارب شخصي خفي بين الملك فؤاد الذي نشأ وترعرع في إيطاليا وبين حكام إيطاليا الجدد.




وقد أثار هذا التقارب سلطات الاحتلال البريطاني خاصة بعد أن دخلت إيطاليا الحرب سنة 1940 إلى جانب ألمانيا بعد وفاة فؤاد سنة 1936 وتولى ابنه فاروق عرش مصر، وكانت ميول فاروق نحو دول المحور ونحو إيطاليا بالذات سببًا مباشرًا في إحاطة الدبابات البريطانية بقصره وطلب تنازله عن العرش في 4 فبراير 1942 كما سيأتي ذكره في حينه.




أما في ألمانيا فبمجرد وصول هتلر وحزبه النازي إلى السلطة في يناير سنة 1933 بدأ على الفور في هدم الدولة الليبرالية القائمة وإقامة دولة عنصرية فوق أنقاضها تنادي بسيادة الجنس النازي وأقوى دولة في السيطرة على العالم والسيادة على الأجناس الأخرى.




وكما ذكرنا أعلاه لم تكن لدى حزب هتلر النازي أغلبية في البرلمان الألماني، فلجأ إلى مؤامرة احتراق مبنى البرلمان واتهام النواب الشيوعيين والاشتراكيين بارتكاب الجريمة والقبض عليهم جميعًا بعد إعلان حالة الطوارئ، فخلا البرلمان أمام هتلر الذي انتزع منه تفويضًا لمدة عام يتجدد تلقائيًا بحكم ألمانيا حكمًا مُطلقًا بموجب مراسيم يصدرها، وشرع هتلر على الفور في إعادة تسليح ألمانيا بالمخالفة لأحكام معاهدة فرساي سنة 1919 والتي تحدد عدد القوات المسلحة الألمانية وحجم تسليحها ومنعها من الانتشار في بعض مناطق ألمانيا نفسها المتاخمة لدول مجاورة عانت في الماضي من عدوان الجيش الألماني عليها.




ضرب هتلر عرض الحائط بكل القيود التي تكيل تسليح ألمانيا، وبدأ يعد للتوسع على حساب جيرانه، وكان واضحًا أن العالم يتجه نحو حرب عالمية جديدة.



أرادت بريطانيا تأمين وضعها في مناطق نفوذها وتهدئة الأوضاع في مصر، فنصحت الملك فؤاد بإعادة الوفد حزب الأغلبية الشعبية الكبرى إلى الحكم وإعادة دستور سنة 1923 للحياة، وكانت هناك في مصر عندئذ حركات سياسية فاشية صغيرة الحكم ولكن عالية الصوت متأثرة بالحكومات الفاشية الكبرى في إيطاليا وألمانيا النازية، وكانت أهم هذه الحركات هي حركة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا، وحزب مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين، وقامت هذه الحركات بتكوين فرق مليشيات مسلحة مثل فرق القمصان الخضراء التابعة لمصر الفتاة، وبدايات تكوين الجهاز السري التابع للإخوان المسلمين والذي بدأ حركة اغتيالات سياسية واسعة فيما بعد كما سيأتي.


وأخطأ حزب الوفد خطأ سياسيا فادحا عندما حاول التصدي لهذه التشكيلات بتشكيلات مليشيات مماثلة هي فرق القمصان الزرقاء، بدلًا من التصدي للمليشيات بسلطة القانون والدولة التي كانت في يده عندئذ، ولكن أصلح الوفد خطأه بعد فترة قصيرة لم تتجاوز عامًا وبضعة أشهر عندما قام بحل فرق القمصان الزرقاء.



مات الملك فؤاد أوائل سنة 1936 بينما كانت إجراءات إعادة دستور سنة 1923 تجري وأعلن ابنه فاروق القاصر ملكًا تحت وصاية مجلس يرأسه عمه الأمير محمد علي توفيق، ولي العهد عندئذ، وجرت الانتخابات البرلمانية سنة 1936 واكتسحها الوفد كالعادة وأصبح مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد رئيسًا للوزراء.



ودخل في مفاوضات مع حكومة بريطانيا التي كانت حريصة على تهدئة الثورة الشعبية لتواجه هتلر بجبهة بريطانية لا يتخللها الاضطرابات، وانتهت مفاوضات الوفد مع بريطانيا بتوقيع معاهدة سنة 1936 ومدتها عشرين عامًا، وقلصت هذه المعاهدة الكثير من النفوذ البريطاني والغرب في مصر، فحدد عدد القوات البريطانية بعشرة آلاف جندي فقط - وإن كانت بريطانيا لم تلتزم بالعدد خلال الحرب - وألغيت الامتيازات الأجنبية ومحاكم الجاليات الأوربية التي كان الرعايا الأوروبيون لا يحاكمون إلا أمامها.



وأنشئت المحاكم المختلطة لمدة ثلاثة عشر عامًا تنتهي سنة 1949 يحاكم أمامها الكل على قدم سواء.