رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

كارثة التفاوت الرهيب في تعليم المصريين

محمد ابو الغار
محمد ابو الغار



مما لا شك فيه أن تحديث التعليم فى أوروبا من بدايات القرن العشرين قضى على الأمية وأتاح حرية كبيرة للتيارات الفكرية والثقافية المختلفة أن تصل إلى الجميع بغض النظر عن وضعهم الاقتصادى. والشعوب الأوروبية فى معظمها أصبحت ذات ثقافة متقاربة وأصبحت الاختلافات بين الأفراد مرجعها المزاج الشخصى والرغبة فى التعلم، فالعامل الفرنسى البسيط قد يكون قارئًا جيدًا وملمًا بقدر كبير من الثقافة والتاريخ، كمثل أستاذ جامعى، فالوظيفة والوضع الطبقى والمادى لم تعد هى المحدد للمستوى الثقافى والمعرفى. هناك مخاطر كبيرة من وصول التعليم الحديث فى مصر إلى شريحة صغيرة من المجتمع بسبب وضعها الاقتصادى المرتفع بينما لا يصل هذا التعليم لأغلبية الناس، وهو ما يحدث الآن.


أكتب الآن كتابًا جديدًا عن اليهود المصريين وهجرتهم فى منتصف القرن العشرين، وقد غرقت فى أكثر من 20 كتابًا جديدًا وبعض الوثائق والرسائل الجامعية عن هذا الموضوع، وقد اتضح لى بعد بحث مستفيض أنه بالإضافة إلى الأسباب المعروفة عن سبب هجرة اليهود المصريين، وهى الصهيونية العالمية ونفوذها وقيام دولة إسرائيل وتصرفاتها المقلقة وجماعة الإخوان المسلمين وتفجيرها لحارة اليهود ومحلات اليهود والتظاهرات الفاشية لحزب مصر الفتاة وقلة الوعى عند النظام الحاكم. وحيث إن اليهود عاشوا فى مصر أكثر من 2000 عام مرورا بفترات ازدهار وفترات غاية فى الصعوبة ومع ذلك لم يتركوا مصر- اتضح لى أن أحد الأسباب الهامة لهجرتهم هو التطور فى التعليم والثقافة. منذ بداية القرن العشرين تغير نظام التعليم لمعظم الجالية اليهودية عن طريق مدارس الليسيه اليهودية الفرنسية إلى نظام تعليم شديد الحداثة والتقدم مصحوب بثقافة أوروبية متقدمة والنتيجة أن اليهود الذين ولدوا فى نهايات القرن التاسع عشر تلقوا هذا التعليم وامتصوا هذه الثقافة فقفزوا خطوات سريعة إلى الأمام اقتصاديًا بسبب العلوم الحديثة، وثقافيًا ومهاريًا وأصبحوا يعيشون حياة الأوروبيين المتقدمة وانفصلوا تدريجيًا عن الشعب المصرى بل فقدوا اللغة العربية التى كان يتحدث بها آباؤهم وأجدادهم. وحدث شرخ ثقافى بينهم وبين بقية المصريين وبدأوا فى إنشاء المدارس لفقراء اليهود فانعدمت الأمية بين فقرائهم مبكرًا. النهاية هى أنهم كانوا سعداء فى مصر ما داموا يعيشون فى الجزء الأوروبى منها ويتحدثون بلغة أوروبا ويأكلون بالطريقة الأوروبية ويتمتعون بالثقافة والموسيقى والغناء الأوروبى، وما دام المصريون بالنسبة لهم هم الخدم والبوابين والسائقين والطباخين مع علاقة متميزة مع بعض الباشوات الذين يحاولون تقليدهم. النتيجة الطبيعية أن هؤلاء اليهود بسهولة بالغة تركوا البلد ولم يذهبوا إلى إسرائيل بل ذهبوا إلى أوروبا وأمريكا حيث اندمجوا ببساطة فى مجتمعهم الطبيعى. واضطر فقراؤهم إلى الهجرة إلى إسرائيل، بسبب ضغوط من جميع الاتجاهات وبدون مال أو سلطة أو نفوذ يدافع عنهم، لأنها البلد الوحيد الذى رحب بهم.

قد يسأل القارئ ما دخل اليهود الذين خرجوا منذ حوالى ستين عامًا بمصر الآن؟.. أكاد أجزم أن هناك طبقة من الجيل الجديد (تحت 30 عامًا) الذى نما وكبر وتعلم فى مدارس ليس لها علاقة بتعليم كافة المصريين وبثقافة مختلفة لا تشبه ثقافة باقى الشعب ويعيش بطريقة مختلفة فى منتجعات لها أسوار ولا يرون من الشعب غير السائقين والخدم وغيرهم، وإذا خرج من المنتجع وذهب إلى النادى يقابل هناك أهل المنتجع وفى الصيف يقابل نفس الناس فى نفس القرى فى الساحل الشمالى أو يسافر إلى أوروبا حيث يتم تعليمه الجامعى، الأكثر أهمية أن هؤلاء المصريين هم أعلى المصريين تعليمًا حديثًا متقدما وهم أصحاب الكثير من المؤسسات الخاصة ورؤوس الأموال بل يتولون المناصب الحكومية والوزارية التى تحتاج إلى لغة وتعليم خاص. قبل 1952 كانت هناك طبقة أرستقراطية تعيش فى قصور ولكنها وسط الناس وتختلط بهم وتتكلم لغتهم وعندهم ثقافة مرتبطة بثقافة الشعب العامة أو على الأقل يفهمونها.

قالت لى فتاة عمرها أقل من عشرين عامًا إنها تعيش فى مصر فى فقاعة كبيرة مع ناس لا ينتمون إلى بقية الشعب ومجرد اختلاطها ببقية الناس أصابها بصدمة. كيف سيقود هذا الجيل مصر وكيف ستستفيد منهم مصر. أنا متأكد أنه إن لم تحدث مفاجأة ما سوف يخرج هذا الجيل بالكامل بأمواله وتعليمه المتميز ليعيش فى المجتمع الذى ينتمى إليه خارج مصر، وليزداد العالم المتقدم تقدما بأبناء هذا الوطن. وأنا واثق أنه بدون تقدم ملموس فى التعليم المصرى والثقافة المصرية ليشمل كل الطبقة الوسطى وكل النابغين من الطبقة الفقيرة ويا حبذا لو شمل الجميع، سوف تفقد مصر مستقبلها.

فكرة تحديث التعليم التى يحاول أن يقوم بها الوزير فكرة ضرورية بل مسألة حياة أو موت للمصريين، ولكن طريقة تطبيقها خاطئة تمامًا ولن تؤدى إلى شىء.

فى طفولتى وشبابى لم يكن عندنا أملاك ولا سائقون ولكن كنا مبسوطين. كنت أصاحب ابن الباشا وابن الفلاح والعامل فى المدرسة والكلية وألعب الكرة فى الشارع وألعب تنس فى النادى، وأذهب إلى الحارة وأعرف كل الأحياء الشعبية ولغتها. ونذهب إلى مولد السيدة نشاهد الذكر ونذهب إلى الأوبرا نستمع إلى أوركسترا القاهرة السيمفونى، لأن مصر كانت واحدة بأطياف مختلفة ولكنها متناسقة ومتحدة. والآن مصر أصبحت عدة أمصار لا علاقة لبعضها ببعض، وإن لم تتقارب هذه الطبقات على الأقل اجتماعيًا وتعليميًا وثقافيًا فقل على مصر السلام.

قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك.


نقلا عن "المصري اليوم"