المهندس محمد الفيشاوى يكتب: الوفرة وخطرها على الأسرة
من الطبيعي أن يكون للفقر أثر فى توتير الحياة الأسرية، فالفقر يقطع سبل العيش الكريم، والحاجة تضيق النفوس، وضيق ذات اليد قد يولد خلافا موترا للعلاقات الأسرية أو صبرا مرا لايطاق.
لكن غير الطبيعى - والأخطر - أن تكون الوفرة هى الأقدر على هدم البيوت من الفقر نفسه.
فالفقر يختبر جوهر العلاقة، ويجبر الزوجين على الاحتماء ببعضهما، فينشأ بينهما ترابط قهرى أحيانا، وصبر اضطرارى كثيرا، قد يتبعه رضا بما قسمه الله سبحانه وتعالى.
أما الوفرة، فإنها تفتح أبواب المقارنة، وتوقظ شهوة التملك، وتغرى بتوسيع سقف الحاجيات التى لا تنتهى، حتى يصبح الرضا عملة نادرة.
ومما يلفت النظر أن القرآن لم يربط الشقاء الأسرى بالفقر وحده، بل حذر من الانشغال بالمتاع وفتنة السعة قبل فتنة الضيق، حيث قال تعالى:
" وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ "
فالفتنة هنا ليست في وجود المال، بل في أثره حين يتقدم على القيم ويزاحم المبادئ السامية.
فمع المال تأتى البدائل والخيارات العديدة: بدائل في العلاقات، بدائل في أنماط العيش، بل وبدائل فى الأشخاص أنفسهم.
وهكذا تتحول الأسرة من كيان يقوم على المودة والرحمة - كما وصفها القرآن " وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً " -
إلى مشروع استهلاكى تقاس فيه القيمة بما يُقدَّم لا بمن يُقدِّم، ويحاسب فيه الطرف الآخر على كمية العطاء لا على صدق العِشرة وجودة العطاء.
إن الوفرة، إن لم تضبط بقيمة القناعة، قد تضعف الصبر، وتقصر المسافة بين الرغبة والتنفيذ، بين الطلب وتحقيقه، فتجعل قرار الهدم أسهل من قرار الإصلاح والبناء.
وقد نبّه النبى صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى حين قال: "ليس الغِنى عن كثرة العرض، ولكن الغِنى غِنى النفس "، فحين يفتقر القلب، لن تغنيه خزائن الأرض.
وليس عجيبا أن نرى بيوتا فقيرة متماسكة وقوية، وبيوتا ثرية خاوية ؛ ذلك لأن الفقر يختبر القدرة على التحمل، بينما الوفرة تختبر القدرة على الاكتفاء.
وصدق من قال: " كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ".
فالاستغناء المادى إذا لم يصاحبه وازع إيمانى قوى، انقلب طغيانا خفيا يهدم ولا يصلح، فالخطر الحقيقى إذًا ليس في قلة المال، بل في غياب القناعة، وتآكل القيم، وتحول الزواج من ميثاق غليظ إلى عقد قابل للإلغاء عند أول ملل، وقد سمّى الله الزواج ميثاقا غليظا، ليبقى أعلى من نزوات اللحظة وتقلبات المزاج.
ليست المشكلة فى أن نمتلك الكثير،
بل أن تتملكنا الأطماع اللا محدودة والشهوات اللامنتهية.