الدكتور محمد حمزة يكتب: صناعة الجهل... هل أصبح الجهل علمًا يُدرّس؟

هل نحن أمام عصر جديد يُعاد فيه تشكيل الوعي الجمعي عبر أدوات التجهيل والتتفيه؟ وهل صدور كتب ودراسات حديثة موسومة بـ "صناعة الجهل وتفكيكه" و"التتفيه والتجهيل: وسائل واستراتيجيات" هو مجرد صدفة؟ أم أنه مؤشر على تحوّل معرفي خطير؟
إن انتشار هذه المؤلفات يطرح تساؤلات جوهرية: هل ساد عصر الجهل؟ وهل تُرك العلم على الرف؟ وإذا كان ذلك صحيحًا، فهل هناك علم يُعرف بعلم الجهل أو علم التجهيل؟ نعم، إنه علم الأغنوتولوجيا (Agnotology)، الذي يدرس كيف يُصنع الجهل، لا بوصفه غيابًا للمعلومة، بل كمنتج اجتماعي وسياسي وثقافي متعمد.
آليات صناعة الجهل
علم الأغنوتولوجيا يكشف كيف يُصنع الجهل عبر أدوات متعددة، منها:
- نشر التضليل وخلط الأمور للتأثير على الرأي العام
- الإهمال المتعمد أو غير المتعمد
- السرية والتعتيم
- الترويج للسطحية والعبثية
- فن اللف والدوران والتطبيع الفعّال
- استراتيجية المراقبة الذاتية
كلها أدوات تُستخدم لكسب التأييد، أو بيع منتج، أو الإضرار بالسمعة، أو ببساطة لإشغال الناس عن القضايا الحقيقية.
من المسؤول؟
هل المسؤولية فردية؟ أم جماعية؟ أم سلطوية؟
الواقع أن المسؤولية موزعة: بين الفرد، والمجتمع، والسلطة، والإعلام، والمؤسسات التعليمية. فالحيطة ليها ودان، والجهل لا يُعفي من العقوبة، والقانون لا يحمي المغفلين. ولنا في كتب التراث مثل "أخبار الحمقى والمغفلين" شواهد على أن الجهل ليس جديدًا، لكنه اليوم يُصنع ويُدار ويُسوّق.
استراتيجية التتفيه والتجهيل
هل هناك استراتيجية مقصودة؟ نعم، إنها استراتيجية التتفيه والتجهيل، التي يستفيد منها أصحاب المصالح والسلطة، كما حدث في قضايا مثل تغير المناخ، فيروس كورونا، وصناعة الأدوية. الجهل هنا ليس غيابًا للمعلومة، بل تغييبًا متعمدًا لها، وتوجيهًا للرأي العام نحو ما يخدم مصالح معينة.
الإعلام... بين البهرجة والتغييب
حديث الناس اليوم عن الفن والمهرجانات والرياضة، وعن مظاهر البهرجة والثراء الفاحش، وعن السيارات الفارهة والعمليات التجميلية، وعن زواج فلانة وطلاق علانة، وعن أكاديمية الرقص والبوتكس والفيلر... كل ذلك يُروّج له في الإعلام والسوشيال ميديا، بينما يُغيب الحديث عن الإنجازات العلمية، والابتكارات، والعلماء، والباحثين، والأطباء، والمهندسين، والزراعيين.
أين المشروع القومي للثقافة؟
أين المشروع القومي للثقافة الذي يقضي على الجهل والجهالات؟ أين هو من التشكيك في الرموز، وزلزلة الثوابت، وصناعة تاريخ بديل وهويات جديدة؟ أين هو من حروب الجيل الرابع والخامس؟ وأين المعايير الحقيقية لاختيار القيادات وأعضاء المجالس واللجان العلمية والإدارية؟
دعوة للوعي
أيها السادة الأفاضل،
نرجو قراءة هذه الكتب بمنتهى الدقة والتأني، كي نعرف ماذا يجري في العالم، وحولنا، وبين ظهرانينا.
نعم للعلم
نعم للقيم والمعايير الحقيقية
نعم للإرادة الحرة والفكر الحر
نعم للعلماء والإدارة الحديثة وإدارة التغيير
نعم للإنجازات الحقيقية والفعلية
ولا للجهل ولا للتجهيل
ولا للتتفيه والتفهاء
ولا للعبثية ولا للتطبيع الفعّال
ولا لحزب الكنبة ولا لفن اللف والدوران
ولا للمطبلاتية ولا لإنجازات الشو والتريند
ولا لاغتصاب العقل وغسيل الأدمغة
ولا لمن يبيعون أنفسهم لكسب شخصي لا يسمن ولا يغني من جوع
ختامًا
إنما العلم كبحر زاخر، فامتلأ الكوز غرفة من محيط، فرأى الكوز أنه هو المحيط.
وقبل العلم، رأس الجهل وانصرف.
بقلم:
الدكتور محمد حمزة أستاذ الحضارة الإسلامية وعميد آثار القاهرة سابقا