رئيس التحرير
خالد مهران

شاشات عملاقة وغياب الضوابط.. 6 آلاف لوحة إعلانية تهدد بكوارث مرورية على الطرق السريعة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

في الوقت الذي تشهد فيه القاهرة توسعًا غير مسبوق في حجم سوق الإعلانات الخارجية، تتصاعد المخاوف من الآثار السلبية لهذا التوسع على السلامة المرورية والمشهد البصري للمدينة.

وارتفع عدد اللوحات الإعلانية من نحو 2.500 لوحة عام 2019 إلى أكثر من 6.300 لوحة في عام 2025، في ظل غياب معايير واضحة تنظم حجم الإعلانات، وأماكنها، وشدة إضاءتها، خصوصًا مع الانتشار الكثيف للشاشات الرقمية العملاقة في الطرق والمحاور الرئيسية.

ورغم أن هذا النمو السريع يُعد مؤشرًا على النشاط الاقتصادي وازدهار سوق الإعلان، إلا أن كثيرين يرون فيه مظهرًا من مظاهر الفوضى البصرية والتشويش المروري الذي قد يهدد الأرواح.

بينما تتعدد شكاوى المواطنين والسائقين من التأثير المباشر لهذه الإعلانات على تركيزهم أثناء القيادة، يظل التساؤل قائمًا: من يضع حدودًا لهذا التمدد الإعلاني؟ وهل نحن بحاجة إلى تشريع جديد يُعيد التوازن بين الاستثمار الإعلاني والحفاظ على سلامة الطرق والقيم الجمالية للمدينة؟

وفي هذا الصدد، أكد الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، أنه في ضوء السعي لتنظيم الإعلانات واللافتات على الطرق العامة ومختلف المحاور طبقا لقانون رقم 208 لسنة 2020 بشأن تنظيم الإعلانات على الطرق العامة، لا بد من وضع ضوابط تنظم ذلك، بحيث تراعي الحفاظ على النسق العمراني، كما يتعين الحرص على الالتزام بمعايير تحقق القيم الجمالية للشكل الخارجي لهذه الإعلانات واللافتات، فضلا عن ضوابط التزام المحتوى الإعلاني بالقيم المجتمعية المصرية، مع حوكمة إجراءات الحصول على التراخيص اللازمة لوضع الإعلانات واللافتات.

فيما أكد المهندس شريف الشربيني وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، أهمية تنظيم وتنمية الإعلانات على الطرق العامة والمحاور، وتحسين الصورة الحضارية والجمالية لها، وتعزيز جودة الحياة للمواطنين، وتحقيق الاستدامة البيئية والاقتصادية للمشروعات العمرانية، وضمان الالتزام بالمعايير الجمالية والبيئية.

وأكد وزير الإسكان أن العمل على تطوير منظومة الإعلانات لا يقتصر فقط على الجانب الجمالي، بل يمتد ليشمل تعظيم العائد الاقتصادي للدولة من استغلال هذه المساحات، إلى جانب تقليل التلوث البصري، ومواءمة الإعلانات مع الاستخدامات المحيطة والمعايير الدولية.

تجربة لا ينساها

في هذا السياق، قال محمد حسن، سائق ميكروباص يعمل على خط «أكتوبر – رمسيس» منذ أكثر من 12 سنة، إنه مرّ بتجربة لا ينساها، كادت تودي بحياته وحياة ركابه، وكل ذلك – حسب وصفه – بسبب «إعلان مضيء ملوش لازمة».

يحكي «محمد» عن الحادث الذي وقع له العام الماضي على طريق محور 26 يوليو، قائلًا: «كنت سايق بالليل، والطريق زحمة شوية، بس ماشية الدنيا، وأنا داخل على الكوبري، فجأة ظهرت شاشة ضخمة جدًا على يميني، كانت من النوع اللي بيغير الإعلان كل ثانيتين تلاتة، وكل مرة بلون مختلف، الإضاءة كانت خارجة من الشاشة بشكل يخبط في عيني مباشرة، حسيت إني مش شايف الطريق كويس، وبرغم إن السرعة ما كانتش عالية، عيني اتشتتت لحظة واحدة، ولقيت نفسي دخلت في عربية ملاكي قدامي، الحمد لله ما كانش في إصابات، بس الميكروباص اتخبط جامد، والزبون اللي معايا اتعطل عن شغله، وأنا خسرت شغل يومين بسبب الإصلاحات».

«محمد» لا يُخفي انزعاجه مما وصفه بـ«العشوائية اللي سايبة الدنيا ماشية دون حساب»، مضيفًا: «إحنا مش ضد الإعلانات، بالعكس، دا رزق للناس ومصدر شغل، بس الإعلانات دي بقت خطر حقيقي، مينفعش تبقى في شاشات بالليل بتغير كل ثانيتين، والسواقين يبصوا لها غصب عنهم، العين بطبيعتها بتتشد للضوء والحركة، وإحنا بنقود وسط زحمة وتكاتك ومطبات، أي لحظة تشتت ممكن تبقى نهايتك أو نهاية غيرك».

وتابع: «اللي بيركب عربيته يروح بيها الشغل أو يجيب أكل لولاده مش ناقص يشوف إعلان عصير بيتقلب بلون أزرق وأحمر وهو على مطلع كوبري، لازم يكون في رقابة، محتاجين جهة تشوف هل المكان ده ينفع يتحط فيه إعلان ولا لأ؟، وهل الشاشة دي إضاءتها مناسبة؟ فيه دول بتحسب زاوية الإضاءة وسرعة التبديل والتوقيت كمان، إحنا مش أقل من حد».

التشتيت أثناء القيادة

من جانبه، أعرب أحمد فؤاد، موظف حكومي في العقد السادس من عمره، عن استيائه الشديد مما آل إليه المشهد البصري في شوارع القاهرة، معتبرًا أن الإعلانات المنتشرة في كل زاوية من المدينة أصبحت مصدر إزعاج حقيقي، سواء للمواطنين أو السائقين، بل وحتى للأطفال.

يقول «أحمد» بصوت يملؤه الأسى: «في الماضي، كانت الإعلانات موجودة ولكن بصورة متزنة، كانت تُعلّق في أماكن مدروسة، لا تُعطّل الرؤية ولا تُشوّه المنظر العام، أما اليوم، فقد باتت تملأ الشوارع والميادين والكباري والواجهات، بلا أي تنسيق أو ذوق، وكأن المدينة تحوّلت إلى مركز تجاري مفتوح يعجّ بالألوان والأضواء».

وتابع: «الإعلانات تتبدل كل بضع ثوانٍ، بألوان زاهية وإضاءة قوية، خصوصًا ليلًا، حتى أن العين لا تكاد تثبت على الطريق، من الصعب أن تتابع سيرك أو أن تنتبه لإشارة مرور أو لافتة إرشادية وسط كل هذا الصخب البصري، لقد أصبح المشي أو القيادة وسط المدينة مرهقًا نفسيًا وبصريًا».

ويرى «أحمد» أن الخطر لا يكمُن فقط في التشتيت أثناء القيادة، بل يتعداه إلى ما هو أعمق، قائلًا: «المشكلة لا تتعلق فقط بالتشتيت، بل بالذوق العام أيضًا، بعض الإعلانات مبالغ في أحجامها أو ألوانها أو حتى في محتواها، لدرجة أنها لا تراعي طبيعة المكان، هناك لوحات ضخمة تُعرض فوق مدارس أو بجوار المستشفيات أو في أحياء سكنية، وبعضها يعرض محتوى لا يناسب الأطفال أو المارة».

واختتم «أحمد» حديثه قائلا: «أين الجهة المسؤولة عن تنظيم هذه الفوضى البصرية؟ هل تُترك الأمور للشركات لتتنافس بلا قيود؟ نحتاج إلى قواعد واضحة، إلى معايير تُحترم، تحفظ للمدينة مظهرها الحضاري، وتحمي الناس من مخاطر التشتيت البصري المستمر. الإعلان أمر ضروري، نعم، لكنه لا يجب أن يأتي على حساب راحة الناس وسلامتهم».

عبء بصري

قال المهندس كريم عبد الله، استشاري تخطيط الإعلانات الخارجية، إن التوسع الكبير في عدد اللوحات الإعلانية بشوارع مصر خلال السنوات الأخيرة يُعد انعكاسًا لنمو سوق الإعلانات، ويمثل فرصة اقتصادية مهمة، لكنه في الوقت ذاته يطرح تحديات كبيرة على مستوى التنظيم والسلامة والمظهر العام للمدن.

وأضاف «عبد الله» -في تصريحات خاصة لـ«النبأ»- أن الإعلانات الخارجية أصبحت مصدرًا رئيسيًا للدخل سواء للمحليات أو شركات الإعلان، كما أنها أداة تسويقية فعالة للوصول المباشر للجمهور، إلا أن المشكلة تكمن في انتشار العديد من اللوحات دون ضوابط واضحة، أو في أماكن غير مناسبة، مما يؤدي إلى «تلوث بصري»، ويهدد السلامة العامة أحيانًا.

وأوضح أن بعض الحوادث التي شهدناها في الأعوام الماضية -كالسقوط المفاجئ لبعض اللوحات بسبب الرياح أو العيوب الإنشائية- تكشف ضعف الرقابة أو غياب الصيانة الدورية، مشيرًا إلى أن اللوحة الإعلانية لا يجب أن تكون مجرد وسيلة للعرض، بل يجب أن تُصمم وتُركب وفق معايير أمان وهندسة واضحة.

وأكد أن الحل ليس في تقليل عدد اللوحات، بل في تنظيمها بشكل أفضل، قائلًا: «نحن بحاجة إلى معايير موحدة لمساحات اللوحات، وارتفاعها، ونوع إضاءتها، ومكان تركيبها، خاصة في المناطق السكنية أو التراثية، إلى جانب وجود جهة رقابية فاعلة تراقب الالتزام وتُطبّق الجزاءات عند المخالفة».

واختتم «عبد الله» حديثه قائلًا: «اللوحة الإعلانية الناجحة ليست الأكبر حجمًا، بل الأكثر احترامًا للموقع الذي توجد فيه، وللمارة الذين يراها يوميًا، التنظيم هو ما يحوّل الإعلان من عبء بصري إلى جزء من الهوية الحضارية للمدينة».