محمد مازن يكتب من بكين: رسائل خطيرة من الروبوتات إليك

قبل أن تطأ قدماي قاعات مؤتمر الروبوتات العالمي 2025، الذي اختتمت فعالياته يوم ١٢ أغسطس الجاري في ضاحية ايتشوانغ بالعاصمة الصينية بكين، كان الروبوت في ذهني مجرد كائن يثير الابتسامة، يحمل الطعام في المطاعم، أو يوصل الطرود لغرف الضيوف في الفنادق، أو يجيب بجمل مقتضبة مضحكة في قاعات الاستقبال. لكن ما رأيته هناك قلب تصوري رأسًا على عقب وألقى بي في قلب يم من المشاعر المختلطة.
لم يكن الأمر مجرد عرض لتقنيات، بل مشهد لمستقبل ذكي يوشك أن يُسحب فيه البساط من تحت أقدام البشر.
في أروقة المعرض الذي استمر لخمسة ايام، لم تعد الروبوتات مجرد أدوات مساعدة، بل تحولت إلى عامل في مصنع، وجراح في غرفة العمليات، ومزارع ومراقب في حقل، ومدرب ولاعب رياضي، ومعلم وطالب.
في قاعاته الضخمة، رأيت روبوتات بشرية على كل شكل ولون تمشي وتتحدث وتجري وتضرب وتلكم وتعزف وتغني وترقص وتقدم جلسات مساج وحجامة وتجميل، وتطهو الطعام، وتطوي الغسيل بلا كلل، في مجالات من المهام لا تحصى.
في الرياضة، تنافس البشر في كرة القدم والملاكمة والمضمار والحواجز وتمارين اللياقة بدقة مذهلة، وتفتح الباب أمام عصر من المنافسات بين الإنسان والآلة.
في الصناعة، تصنع وتنتج وتخزن وتفحص الجودة وتشحن في كل القطاعات حتى في صناعة السفن.
في الزراعة، آلات ذكية تراقب وتحصد المحاصيل بكفاءة لا تعرف الإرهاق.
في الإنقاذ والطوارئ، تتعامل مع اشد البيئات خطورة. وفي الصحة، تقوم العظام وتزرع الاسنان وتجري الاشعات ولا أمهر الفنيين والأطباء، وتقدم اللوجيستيات والرعاية الصحية والعاطفية للمسنين والمرضى على مدار الساعة.
وفي المنازل، نظافة وترتيب وطبخ ودعم عاطفي ينجزها الروبوت بلا شكوى ولا توقف.
هنا، يطرح المشهد سؤالا جوهريا:
هل نحن أمام عصر تستبدل فيه تلك الآلة الإنسان، أم أمام مرحلة جديدة من الاندماج بينهما؟
يرى المدافعون عن الروبوتات البشرية أنها ستتولى المهام المملة أو الخطيرة، لتترك للبشر الوقت للإبداع واتخاذ القرارات المعقدة، بينما يحذر آخرون من أن كل خطوة نحو الأتمتة تعني خطوة أقل نحو الاعتماد على البشر، خاصة مع قدرة الروبوتات على التعلم الذاتي، والتكيف اللحظي، والعمل بلا توقف أو مطالبة بحقوق.
إن ابتكار الروبوتات التي تدمج بين الذكاء الاصطناعي والتحكم عن بعد لأداء الأعمال الدقيقة يوضح أننا لا نتحدث عن أدوات مساعدة فقط، بل عن شركاء محتملين أو منافسين في العمل والحياة.
وفي هذا المجال، الصين لا تخفي طموحاتها، إذ تكشف إنه ا تخطط لإنتاج جماعي واسع للروبوتات البشرية بحلول 2027، مع توقعات بأن يصل حجم السوق إلى 41 مليار دولار بحلول 2032، في إطار استراتيجية شاملة لدعم الذكاء الاصطناعي والروبوتات ضمن ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة.
ويركز الدمج بين الذكاء الاصطناعي والروبوتات على تطوير الإدراك الجسدي، وتحسين اتخاذ القرار، وتعزيز التعاون الفعال بين الإنسان والآلة.
وتعكس الاستثمارات الصينية الضخمة، مثل إنشاء مراكز ابتكار الروبوتات البشرية وإطلاق متاجر متخصصة مثل "روبو مول" الذي افتتح تزامنا مع المؤتمر، التزاما واضحا بأن تصبح رائدة عالميا في هذا المجال، مع خطة خمسية تسعى لدمج الروبوتات بعمق في الحياة اليومية بحلول 2035.
لكن وسط هذا الانبهار، يظل التحدي الأكبر هو كيف نضع الحدود ونصوغ القوانين قبل أن تتحول هذه الرسائل الهادئة من الروبوت إلى أوامر لا يمكن التراجع عنها. فالروبوتات المزودة بالذكاء الاصطناعي تجمع كما هائلا من البيانات، ما يطرح أسئلة حساسة حول الملكية والاستخدام. وفي سوق العمل، كل روبوت يدخل المصنع يعني غالبا وظيفة بشرية أقل، ما قد يغير شكل المجتمع والعلاقات الإنسانية.
حقا، هذه التقنيات تعد بزيادة الإنتاجية وتقليل الأخطاء وتوسيع الخدمات حتى في الأماكن النائية، لكنها أيضا تفرض واقعا جديدا يتطلب استعدادا فكريا وتشريعيا وأخلاقيا.
التاريخ يعلمنا أن كل ثورة صناعية تعيد تشكيل المجتمع، لكن هذه الثورة تختلف بسرعة انتشارها وقدرتها على التغلغل في تفاصيل الحياة.
وفي الختام، الجواب عن سؤال "استبدال أم اندماج؟" لم يحسم بعد. لكن ما هو مؤكد أن تجاهل النقاش ووضع القوانين سيجعل المعادلة تميل تلقائيا لصالح الآلة. وإذا لم نحدد نحن حدود الدور البشري، ستحدده لنا خوارزميات لا تعرف الرحمة ولا تفهم المعنى الإنساني.