محمد مازن يكتب: من بكين قصة تحويل منجم فحم ملوث إلى واحة اقتصادية وسياحية

عندما كنت أتصفح تطبيق بايدو للخرائط، جذبني مشهد خلاب على بعد 60 كيلومترًا من قلب بكين، فقررت أن أكتشف هذا المكان بنفسي. وما اكتشفته كان أكثر من مجرد منظر طبيعي؛ كانت قصة ملهمة عن قدرة الإنسان على تصحيح مساره مع الطبيعة، وتحويل منطقة كانت يومًا ما منجمًا للفحم يعاني من التلوث والدمار إلى واحة حية وجاذبة تجمع بين الجمال، والتنمية، والوعي البيئي.
داخل الموقع، تتجسد لوحة فنية طبيعية فريدة من نوعها: ممرات خشبية تمتد بين الحقول والنباتات، و3 بحيرات متصلة تتلألأ بألوانها الشفافة، يحيط بها أشجار وزهور الماء الملونة، بينما تتراقص شلالات هادئة على أنغام الطبيعة، ويطوف البط برشاقة فوق المياه، وكأنها رقصة ناعمة على إيقاع الكون. يمكن للزائر أن يختبر حياة الطيور من خلال أبراج المراقبة، أو يلتقط صورًا لنماذج الأسماك الملونة التي تسبح في المياه النقية، في تناغم فريد بين الإنسان والطبيعة.
لكن المفاجأة الكبرى أن هذا المكان قبل حوالي عشرين عامًا كان منجمًا للفحم، يعاني من تلوث شديد، وتربة مسممة، وبحيرات راكدة، وحياة برية مهددة بالانقراض. فكيف تحول إلى واحة خضراء نابضة بالحياة ووجهة سياحية واقتصادية؟
الإجابة ببساطة: كانت هناك إرادة قوية وسياسة جريئة من قبل حكومة بكين، حيث قررت عام 2000 إغلاق المنجم، وبدأت خطة متكاملة لإعادة تأهيل الموقع. لم تكن مجرد تنظيف سطحي، بل مشروع علمي متطور استند إلى هندسة جيولوجية دقيقة لردم الحفر الخطرة، وإنشاء نظام هيدرولوجي يعتمد على إعادة توجيه مياه الصرف المعالجة من مصنع بتروكيماويات محيط، باستخدام مرشحات طبيعية من النباتات والطين.
وهنا تكمن روعة التجربة، إذ حولت عمليات الترميم المخلفات البيئية إلى موارد حيوية.
فبدلا من التخلص من المياه الملوثة، استُخدمت تقنيات متقدمة لتحويلها إلى حياة تتدفق في شرايين النظام البيئي الجديد. تصميم طبقات التربة كان عبقريا، حيث غطيت المناطق السامة بطبقة عازلة، ثم بني فوقها طبقة حيوية من النباتات المحلية التي تستطيع امتصاص السموم وتثبيت التربة.
هذه العمليات لم تكن عشوائية، بل كانت ثمرة تعاون غير مسبوق بين مؤسسات رسمية وخاصة، ومراكز بحث، وتمويل مباشر من البلدية، لتنتج في النهاية لوحة فنية من التوازن الطبيعي، حيث أصبح الموقع اابالغةمساحته مليون و٣٠٠ ألف متر ( حوالي ٣١٠ فدان) موطنا لأكثر من 200 نوع من الطيور و40 نوعا من الأسماك، مقارنة بـ 4 و2 على التوالي قبل ذلك.
والأهم من ذلك أن هذا المشروع لم يغير فقط البيئة، بل غير وعي المجتمع. فالسكان أدركوا أن الإنسان قادر على أن يكون جزءا من الحل، وأنه يمكن أن يعيش بتناغم مع الأرض، بدلا من تدميرها. واليوم، أصبح الموقع مكانا للترفيه، والعلم، والتعلم، يحمل دروسا عملية عن الترميم البيئي، وعن بناء مستقبل أكثر استدامة.
هذه الرحلة الملهمة من بكين، يمكن أن تكون نموذجا حيا لمن يبحث عن طريق لتحقيق تنمية مستدامة. فبدلا من أن ننظر إلى الأراضي المهددة بالتلوث أو المناطق الصناعية القديمة على أنها عبء، يمكن أن نستثمرها كمحطات إبداعية تنموية، تساهم في تحسين جودة الهواء، وتقليل التلوث، وإعادة الحيوية للمناطق المحيطة.
هناك هياكل صناعية قديمة، غالبا ما تتراكم فيها المخلفات والتلوث. بدلا من هدمها أو التوسع العمراني التقليدي، يمكننا أن نستفيد من هذا النموذج، ونضع خطة لإعادة تأهيل تلك المناطق عبر عمليات تنظيف، وزراعة نباتات مقاومة للملوثات، وتحويلها إلى مساحات خضراء وسياحية، ترفيهية وتعليمية.
ندرك أن تنفيذ مثل هذه المشاريع يتطلب استثمارات وتخطيطا دقيقا، وليس من الضروري أن تتحمل الدولة وحدها العبء. فبناء شراكات مع القطاع الخاص والبنوك والجامعات والمؤسسات البحثية، والمنظمات الدولية، هو الطريق الأمثل. فكل طرف يمكن أن يلعب دورا في تقديم الحلول العلمية والتقنية، وفي توعية المجتمع، لضمان نجاح مستدام.
ختاما، قصص النجاح العالمية تؤكد أن التحديات البيئية ليست نهاية الطريق، بل بداية لفرص جديدة، وإمكانات هائلة للتطوير.








