محمد مازن يكتب: الجمهورية الجديدة.. من "الخرسانة" إلى "الروح"

في عصر الجمهورية الجديدة، تسير مصر بخطى واسعة نحو بناء مستقبل تنموي طموح، يستند إلى تحديث البنية التحتية، وتوسيع رقعة العمران، ورفع كفاءة الخدمات العامة.
لكن، في ظل هذا الحراك الملحوظ، يظل السؤال الأهم: هل وضعنا "الإنسان" في قلب هذه التنمية؟ وهل تكفي المشروعات الضخمة وحدها لتحقيق التحول المنشود؟
لا يمكن إنكار أن مصر شهدت في السنوات الأخيرة قفزات كبيرة في مشروعات التطوير الحضري، ومنها ما يعكس بالفعل رؤية إنسانية راقية، مثل ممشى أهل مصر على كورنيش النيل بالقاهرة، الذي أعاد الحياة لشريان رئيسي من قلب العاصمة، وكذلك ممشى أسوان الجديدة، الذي مزج بين الطبيعة والترفيه، وتطوير كورنيش الإسكندرية ومطروح وغيرها من المشاريع، التي تتماشى مع رؤية حضارية حديثة ترتقي بذوق المواطن المصري وتمنحه متنفسا عصريا يليق به.
هذه المشاريع وغيرها تشير إلى توجه إيجابي نحو تحسين جودة الحياة، وتستحق أن تبنى عليها رؤى أوسع لصياغة مستقبل أكثر توازنا بين "الخرسانة" و"الروح".
في كثير من دول العالم، نجد أن التنمية لا تتوقف عند حدود المنشآت والبنية التحتية، بل تمتد لتشمل تحسين جودة حياة المواطن اليومية، من خلال مشاريع تصب بشكل مباشر في رفاهيته النفسية والبدنية وتكون متاحة للجميع دون عوائق مادية أو أسوار أو غيره.
في الصين وتحديدا في العاصمة بكين تم تحويل مجرى مائي يعرف بنهر ليانغ شيويه إلى مساحة عامة نابضة بالحياة. لم يُهمل النهر الذي تصب في مياه الأمطار أو يترك ليعكر حياة السكان، بل تم تحويله إلى ممشى مذهل يمتد لعشرات الكيلومترات على طول الجانبين، مكتمل بالمرافق من ملاعب، وصالات مفتوحة، وأماكن للتزلج والتزحلق، ومسارات منفصلة للدراجات، والأطفال، والمتريضين، وحتى للكرة. وأكثر من ذلك، أُنشئت حدائق بأشكال وألوان وأشجار متنوعة، وبحيرات وبرك، ومكتبات وأشكال فنية مبهرة.
الهدف من هذه المشاريع لم يكن الربح المادي المباشر، بل إعادة الروح للمدينة، ومنح المواطن متنفسا يسهم في استقراره النفسي، ورفع إنتاجيته، وتعزيز وارتباطه بالمدينة.
هذا النموذج يوضح أن صناعة المواطن المنتج لا تحدث صدفة، بل تحتاج إلى بيئة نفسية وصحية ملائمة، ومساحات ملهمة، ومدن تعزز الانتماء، وتخفف من الضغوط، وتخلق فسحة للأمل. هذا هو جوهر ما يُعرف بصناعة الإنسان المنتج: مواطن واع، سعيد، مبدع، وصاحب دور في مجتمعه.
ولكي تتحقق هذه الصناعة، هناك حاجة إلى تخطيط يأخذ في اعتباره عوامل الصحة النفسية، والفراغ العام، والراحة البصرية للإنسان، لا أن تتحول بعض الكباري، على سبيل المثال، إلى مساحات تجارية مزدحمة قد تؤدي إلى نتائج عكسية مثل الاختناق المروري، والتلوث، وفقدان الطابع العمراني، وربما تؤثر سلبا على السكينة العامة وتوازن المدينة.
لا يعني هذا انتقاصا من الجهد القائم، بل هو دعوة لاستكماله على نحو أكثر تكاملا. نحن في أمس الحاجة اليوم إلى رؤية تنموية شاملة تعيد صياغة مدننا لتكون أكثر اتساقا مع الإنسان، أكثر مراعاة للبيئة، وأقرب إلى فكر الابتكار والراحة النفسية.
نريد مدنا فيها مترو أنفاق يسير جنبا إلى جنب مع شجرة، وكوبري حديث يمر فوق ممشى أخضر، ومتجر لا يحجب نهرا أو بحرا، بل يجاوره ويعزز قيمته. نريد إلى جانب جمهوريات الكباري والطرق والمنشآت الضخمة جمهوريات الحدائق، والمسارح، والمتاحف، والمكتبات، ومراكز الإبداع، والمقاهي الثقافية، التي تشكل الوجدان وتنتج المواطن الذي نريده: صانعا للحضارة، لا مجرد مستهلك للبنية.
ما شاهدناه في العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة يستحق الإشادة ويجب تعميمه فى المدن المختلفة قديمة أو جديدة ترى كل مواطن مشروعا للأمل، والإبداع، والمشاركة، لا مجرد رقم في معادلة اقتصادية.
في النهاية، التنمية ليست مجرد عملية بناء عمراني، وإنما عملية بناء إنسان. هي صناعة أمل، وصناعة وعي، وصناعة مستقبل، لا يمكن فصلها عن جودة الحياة وتفاصيل الحياة اليومية.





