المستشار وليد عز الدين يكتب: فض المنازعات عن طريق التحكيم

في عالمنا المعاصر، حيث تتشابك العلاقات الاقتصادية وتتسارع وتيرة المعاملات التجارية على نحوٍ غير مسبوق، أصبحت المنازعات أمرًا لا مفرّ منه، بل صارت جزءًا أصيلًا من المشهد التجاري. ولما كانت الإجراءات القضائية التقليدية لا تلائم في كثيرٍ من الأحيان طبيعة هذه المعاملات من حيث السرعة والمرونة، بدأ التوجّه العالمي يتجه إلى بدائل أكثر فاعلية، وعلى رأسها "التحكيم" كوسيلة مرنة وفعّالة لحسم النزاعات.
وقد أدركت مصر مبكرًا أهمية هذا التوجّه، فسعت إلى ترسيخ آلية التحكيم ضمن بنيتها التشريعية، وأسّست مراكز تحكيم إقليمية ذات طابع دولي، في مقدمتها مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي؛ ليكون منصة محايدة وموثوقة لتسوية المنازعات التجارية داخل مصر وفي العالم العربي.
تعريف التحكيم
التحكيم هو نظام قانوني بديل عن القضاء، يُمكّن الأطراف من تسوية نزاعاتهم عن طريق مُحكّم أو هيئة تحكيم يصدر عنها حكم يكون نهائيًّا وملزمًا. ويستند التحكيم إلى اتفاق مُسبق بين الأطراف يُعرف بـ«اتفاق التحكيم».
ووفقًا لقانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994، فإن التحكيم هو: «كل اتفاق بين طرفين أو أكثر على أن يُعرض على التحكيم كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو قد تنشأ بينهم بمناسبة علاقة قانونية معينة، عقدية كانت أو غير عقدية».
هيئة التحكيم
تُشكّل هيئة التحكيم باتفاق الأطراف، سواء من محكّم واحد أو أكثر.
إذا لم يتفق الأطراف على العدد، يُعتبر العدد ثلاثة محكّمين، ويجب أن يكون العدد دائمًا وتريًّا (1، 3، 5...) وإلا كان التحكيم باطلًا.
لا يُشترط أن يكون المحكّم من جنسية معيّنة، ما لم ينص اتفاق التحكيم صراحةً على ذلك.
إجراءات التحكيم
للأطراف الحرية في الاتفاق على الإجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم، بما في ذلك إمكانية إخضاعها لقواعد مراكز تحكيم في مصر أو خارجها.
تبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذي يتسلّم فيه المدعى عليه طلب التحكيم من المدّعي، ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك.
كذلك، يجوز للطرفين الاتفاق على مكان التحكيم، داخل مصر أو خارجها، وإذا لم يتّفقا، تختار الهيئة مكانًا مناسبًا، دون أن يخلّ ذلك بحق الهيئة في عقد جلسات في أي مكان لغرض الإجراءات، مثل سماع الشهود أو المعاينة.
حكم التحكيم وإنهاء الإجراءات
تُطبّق الهيئة القواعد القانونية المتفق عليها بين الطرفين، وفي حال الاتفاق على قانون دولة معينة، يُطبّق القانون الموضوعي فقط دون قواعد تنازع القوانين، ما لم يُنص على خلاف ذلك.
تصدر الأحكام من الهيئة بأغلبية الأصوات، بعد المداولة بالطريقة التي تحدّدها الهيئة.
يجوز للهيئة إصدار أحكام وقتية أو جزئية قبل الحكم النهائي.
ميعاد إصدار حكم التحكيم
يجب إصدار الحكم المنهي للخصومة خلال المدة المتفق عليها بين الطرفين، وإن لم يوجد اتفاق، يكون الميعاد 12 شهرًا من بدء الإجراءات.
في حال تجاوز الميعاد دون صدور حكم، يحق لأي من الطرفين اللجوء إلى المحكمة المختصة بطلب تحديد ميعاد إضافي أو إنهاء إجراءات التحكيم.
قوة حكم التحكيم وتنفيذه
ينتهي التحكيم بصدور الحكم المنهي للخصومة أو بصدور أمر بإنهاء الإجراءات.
لأحكام التحكيم حجية الأمر المقضي، وتُعد واجبة التنفيذ.
يمكن تنفيذ حكم التحكيم في أغلب دول العالم استنادًا إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها.
خاتمة
يمثّل التحكيم اليوم إحدى أبرز وسائل العدالة البديلة التي تُلبي احتياجات مجتمع الأعمال، لما يوفّره من سرية، ومرونة، وسرعة، وخبرة متخصصة. وهو ليس فقط وسيلة لتسوية المنازعات، بل أصبح أداة لتعزيز مناخ الاستثمار وضمان استقرار العلاقات التجارية، خاصةً في الدول التي تسعى لجذب الاستثمارات عبر أنظمة قانونية عصرية تحترم الاتفاقات وتضمن العدالة الناجزة.