المعلقات لا تموت.. الصين تضىء درب شبابها بالشعر الجاهلي

في مشهد ثقافي بارز يكرس روح التفاهم والحوار بين الحضارات، أشاد أكاديميون وخبراء صينيون متخصصون في الأدب العربي بأهمية إصدار النسخة الصينية من كتاب "المعلقات لجيل الألفية"، معتبرين إياه علامة فارقة في مسار الترجمة الأدبية وتعزيز التبادل الثقافي بين الصين والعالم العربي.
جاء ذلك خلال ندوة أقيمت حديثًا في جامعة بكين، شارك فيها نخبة من الأساتذة والمترجمين والناشرين، حيث ناقش الحضور سبل تقديم الأدب العربي الكلاسيكي بلغة تنسجم مع روح العصر وتلهم الجيل الجديد، مع التركيز على القيمة المعرفية والفكرية لهذا النوع من الأعمال في بيئة أكاديمية صينية آخذة في التوسع.
الكتاب هو ثمرة تعاون بين قسم اللغة العربية بجامعة بكين، ومركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، ودار نشر جامعة بكين، تحت إشراف الدكتور لين فنغ مين، أحد أبرز المتخصصين الصينيين في الأدب العربي. وقد شارك في الترجمة والتعليق أكثر من عشرة مترجمين، واستغرق إنجازه قرابة خمس سنوات قبل أن يرى النور في أبريل 2025، وفقا لشينخوا.
ويُعيد هذا العمل ترتيب المعلقات — التي تعد من أروع ما أنتجته العربية في عصر ما قبل الإسلام — ضمن رؤية معاصرة موجهة للشباب، تجمع بين الترجمة الأدبية الدقيقة، والشروح الأكاديمية الموسّعة، والتوثيق الجغرافي والثقافي الدقيق، مما يجعله نموذجًا حديثًا للتعاون الصيني العربي في مجال الترجمة والدراسات الإنسانية.
الشعر الجاهلي مرآة الروح الشرقية
رأى الدكتور لين فنغ مين أن المعلقات، بما تحمله من شاعرية سامية وقيم إنسانية راسخة، ليست مجرد قصائد تاريخية، بل نصوص روحية تحمل رسائل خالدة قادرة على مخاطبة وجدان الإنسان المعاصر، ولا سيما شباب الصين الذين يبحثون عن المعنى والهوية وسط تيارات الحداثة والنزعات الفردية.
من خلال معاني الشجاعة، والكرامة، والصبر، والانتماء، يرى لين أن المعلقات تقدم للشباب أدوات فكرية لفهم ذواتهم وعلاقتهم بالمجتمع والطبيعة، كما تزرع فيهم بذور "الحكمة الشرقية" القادرة على التوازن بين الفرد والجماعة. ويضيف أن هذا الشعر البدوي، المولود من صحراء العرب، يلامس توق الإنسان المعاصر إلى الترحال والاكتشاف، ويمنحه دروسًا في الصبر والجَلد والانتصار على التحديات.
--تفكيك الصور النمطية عن "الشرق"
ومن منظور ثقافي أوسع، يؤكد الأستاذ الصيني أن الاطلاع على المعلقات يُسهم في تفكيك الصور النمطية لدى بعض الشباب الصيني عن الثقافة العربية. فهي تبيّن أن الشرق لا يُختصر في الأدب الصيني أو الفلسفة الكونفوشية فقط، بل يتّسع لروح شعرية عربية مفعمة بالحياة، تسكنها مشاهد البادية، والبلاغة، والرمزية، وحب الطبيعة.
ويعتبر هذا التوسيع في فهم "الشرق" خطوة مهمّة لفهم العالم بمنظور غير غربي، ينسجم مع روح "الحزام والطريق" ويعزز من حضور الحوار بين الثقافات كجزء من بناء منظومة معرفية صينية مستقلة.
يُشار إلى أن الصين لم تشهد سابقًا سوى إصدارين مترجمين من المعلقات، احتويا على سبع قصائد فقط، بينما يجمع الإصدار الجديد عشر معلقات كاملة باللغتين الصينية والعربية في كتاب واحد، ويتميز بإضافة مقالات تمهيدية ودراسات تحليلية من إعداد المترجمين، ما يجعل منه عملًا غير مسبوق في مجاله.
ووصف بعض النقاد هذه النسخة بأنها "المعلقات بعيون الباحثين الصينيين"، لما تحمله من قراءة عميقة وإسقاطات معاصرة تتجاوز الترجمة الحرفية إلى إعادة تأويل حضاري وفكري.
وفي سياق آخر، دعا الدكتور فو تشي مينغ، نائب عميد كلية اللغات الأجنبية بجامعة بكين، إلى ترجمة الشروحات والتحليلات المرفقة في النسخة الصينية إلى اللغة العربية، لتعميم الفائدة على الأكاديميين والباحثين العرب، وتعزيز الحوار المعرفي المشترك حول الأدب الكلاسيكي.
وأكد فو أن مشروع "المعلقات لجيل الألفية" لا يهدف فقط إلى ترجمة نصوص شعرية، بل إلى نقل روح الحضارة العربية إلى عقول وقلوب شباب الصين، مشيرًا إلى أن الكتاب يمثل جهدًا تراكميًا لأجيال من الباحثين الصينيين المتخصصين في الأدب العربي.
من المعلقات إلى الميدان الأكاديمي في بكين، تتجلى اليوم قوة الكلمة وقدرتها على تجاوز الزمان والمكان. هذا العمل، بما يحمله من شغف فكري وروح إنسانية، يعيد تقديم الشعر العربي القديم كمرآة يطل منها شباب الصين على حضارة عربية نابضة بالحياة، ويمنحهم مفاتيح لفهم الذات والآخر، في زمن تزداد فيه الحاجة إلى الحوار والانفتاح الثقافي.


