< محمد كمال يكتب: عملية سفنكس الأسرار الكاملة لضرب المفاعل النووي العراقي.. الحلقة الخامسة
النبأ
رئيس التحرير
خالد مهران

محمد كمال يكتب: عملية سفنكس الأسرار الكاملة لضرب المفاعل النووي العراقي.. الحلقة الخامسة

محمد كمال
محمد كمال

شهد عام ألف وتسعمائة واثنين وثلاثون مولده، وتحديدًا في الحادي عشر من شهر يناير، في مدينة بنها، تلك التي هي أكبر مدن محافظة القليوبية المتاخمة إلى محافظة القاهرة عاصمة مصر.

تربى بشكل حضري دون أن يتجاهل والده تعليمه الريفي القائم على حفظ القرآن على يد أحد المشايخ، والذي تلاحظ له نبوغه وذكاءه في حفظ آيات الكتاب الحكيم بشكل مختلف عن أقرانه، وقد تنبأ له بمستقبل باهر، ولكن شيخه كان يظن أنه سيكون نابغة في يوم من الأيام في علوم الدين أو الفقه أو التفسير، ولكن الأيام غيرت مجرى سير حياته وأصبح نابغة من نوع آخر.

كانت دراسته الابتدائية والإعدادية في بنها، وهي محل إقامة والده، ولكنه توجه صوب مدينة طنطا لتلقي تعليمه الثانوي الباكالوريا، تلك المدينة الصاخبة ذات الطابع الديني والتي تحتضن بين جنباتها مقام الشيخ السيد البدوي، والذي يزوره مريدوه من أنحاء مصر في موسم أعياده السنوي، إلا أنه لم يكن يشغله شيء في هذا الوقت سوى أن ينهي تعليمه الثانوي وأن يكون واحدًا من طلاب كلية الهندسة.

لم تغره الإسكندرية صاحبة شاطئها الساحر ونسائها الجميلات المتمايلات يومًا بجمالها ولا بحلاوة نسائها ولا بصيفها المزدحم ولا شتائها الممطر، لم تغره أبدًا ولم تستطع بكل ما قدمت له من مغرياتها أن تجعله يحيد عن هدفه، بل كان هو أكثر عنادًا من إغراءاتها، واستكمل دراسته الجامعية بعد تفوقه في الثانوية، والتحق بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية.

قضى سنوات دراسته في ظل نظام الحكم الملكي بمصر، وقبل أن يتخرج من كلية الهندسة وفي عامه الأخير ظهر تنظيم الضباط الأحرار، وانقلبت الملكية إلى جمهورية في عام التخرج، فتخرج من كلية الهندسة عام 1952 وكان نظام الحكم في مصر قد أصبح جمهوريًا.

كان واحدًا من الشباب المصري المرحب بالفكرة الثورية وقبول نظام الحكم الجمهوري باعتباره قناة الديمقراطية الجديدة التي ما إن سمع حكاياتها الآتية من الغرب الأوروبي فكان عاشقًا لها.

لم يؤثر المناخ السياسي المتغير الذي عايشه في سن ما بعد المراهقة على تفوقه، والذي كان الميزة التي صاحبته منذ نعومة أظافره، فتخرج من كلية الهندسة بتفوق، ولم يغادرها بل ظل يحاضر فيها حتى عام 1956.

في هذا العام وقع الاختيار عليه ليلتحق بالبعثة العلمية في لندن لاستكمال رسالة الدكتوراه ليصبح مدرسًا في كلية الهندسة بحكم تفوقه وحصوله على الترتيب الثالث في سنة تخرجه من الجامعة.

على الرغم من التغيرات السياسية التي مر بها في هذا الزمن من عمره، وثورة يونيو التي قلبت نظام الحكم في مصر وغيرها من التغييرات السياسية والتي كان لها تأثير على الحياة الاجتماعية، إلا أن الظروف السياسية لم تغير في خطاه يومًا، إلا بعد عام 1956 حينما توجه إلى لندن لاستكمال دراسته والحصول على درجة الدكتوراه، إلا أن العدوان الثلاثي الحاصل في نفس العام كان سببًا أساسيًا في تغيير وجهته من جامعة كمبردج الإنجليزية لاستكمال رسالته العلمية، فمن شطر وجهته إلى موسكو لاستكمال ما بدأه في رسالة الدكتوراه.

في الفترة ما بين عام 1952 سنة تخرجه وعام 1956، عام التحاقه بالبعثة العلمية للحصول على الدكتوراه، وقبل سفره تزوج من ابنة عمه وسافرا سويًا زوجين إلى موسكو، وبعد ستة سنوات حصل على درجة الدكتوراه في الهندسة النووية، وهو واحد من أدق التخصصات التي لم يطرق بابها إلا القليل على مستوى العالم، ليعود واحدًا من أهم عشرة رجال على مستوى العالم النابغين في هذا التخصص.

عاد إلى دياره يحمل شهادة الدكتوراه والتي كانت سببًا مباشرًا في التحاقه بهيئة الطاقة النووية المصرية، ذلك المشروع الذي أطلقه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكان أرضًا خصبة له ولإبداعه.

سافر إلى النرويج في الفترة ما بين عامي 1964 و1966 ليعود كأستاذ مساعد يحاضر في كلية الهندسة، ولكن سرعان ما وصل إلى درجة الأستاذية الجامعية، فأصبح أستاذ دكتور في كلية الهندسة، بل ورئيس قسم الهندسة النووية الذي أنشئ مؤخرًا في هذا التوقيت ليتولى هو رئاسته، كما لو أن هذا القسم تم إنشاؤه ليكون تحت قيادته.

أبدع كثيرًا في هذا المجال فقدم نحو خمسين بحثًا وأشرف على ثلاثين رسالة دكتوراه، فكانت فترة رئاسته لهذا القسم هي أغنى فتراته في تاريخه حتى الآن.

لم تكن الفترة التي قضاها في النرويج فترة هادئة في عمره، بل تستطيع أن تقول إنه عاد إلى مصر هاربًا من هناك.

النرويج هي إحدى أهم معاقل الصهيونية في أوروبا، ودعني أذكرك بشيء لعلك تعي أن اتفاق أوسلو الشهير وُلد على هذه الأرض، والتي يتحكم في البوق الإعلامي فيها الصهيونية بشكل فج وملحوظ.

وكانت الآلة الإعلامية هناك موجهة لتصب غضبها على العرب الهمج والفلسطينيين الإرهابيين وما يتسببون فيه من إراقة دماء اليهود الطيبين على أرض الميعاد.

براعة علمه وإسهابه اللامتناهي في المعلومات كان سببًا مباشرًا لتوجيه أكثر من طلب لمنحه الجنسية، إلا أنه رفض هذه الفكرة تمامًا حتى وصلت في بعض الأحيان إلى حد المطاردات.

استاء كثيرًا من هذا الإلحاح غير المبرر، واستاء أكثر من البوق الإعلامي الكاذب في النرويج والذي دائمًا ما يقدم براءة الصهيونية وملائكيتها وشيطنة العرب وإرهاب الفلسطينيين.

كان الوضع مستفزًا كثيرًا له حينما كان يرى هذا الوجه الكاذب من الإعلام الصهيوني هناك، حتى كان يومًا وُجهت له دعوة في إحدى الندوات، فما كان منه إلا أن جهز خطبة طويلة بشكل علمي منمق حول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وانتهز فرصة دعوته لإحدى الندوات المفتوحة، وهناك قال كلمته التي أثارت إعجاب الكثيرين، ولكنها أثارت غضب اللوبي الصهيوني والموساد في النرويج، وكانت هذه الخطبة سببًا في بداية ترصد خطواته وتعقبه، خصوصًا وأنه قد تحدث بلسان العلم في السياسة، وعندما يجتمع الاثنان على لسان واحد فالمجال مفتوح للاتهام بالعصبية كمبرر أول لإعلان الكراهية.

وبدأت المضايقات الشديدة للدكتور العالم من الجهات المعادية للعروبة ولفلسطين، فقرر العودة إلى القاهرة.

في عام 1967 تم تجميد البرنامج النووي المصري على إثر عدوان الخامس من يونيو، وبدأت أحلامه تتبدد، ولكن بعد عام 1973، وكان يظنه عام النصر في الحرب والانتصار للعلم الذي تم تجميده منذ ستة سنوات، كانت الفاجعة أنه تم تسريح العاملين في هذا البرنامج وتوزيعهم على أماكن مختلفة ليُوأد الحلم النووي المصري وتُوأد معه أحلامه وإبداعاته.

كانت حرب العبور المصرية عام 1973 سببًا مباشرًا لتوجيه نظر العالم إلى أهمية الطاقة النووية باعتبارها البديل للبترول الذي يتحكم فيه العرب على مستوى العالم، فكثير من الدول حاولت اللجوء إلى المفاعلات النووية لتصبح مصدرًا للطاقة البديلة عن البترول.

وكانت أولى الدول في العالم العربي التي حاولت أن تتجه نحو الطاقة النووية هي العراق.

كانت زيارة نائب رئيس الجمهورية العراقية، ذلك الرجل الأقوى صدام حسين، إلى باريس في نوفمبر عام 1975، والذي أصبح بعد ذلك هو رئيس الجمهورية، والتي غيرت هذه الزيارة كثيرًا من أحداثيات الموقف في الشرق والصراع العربي الإسرائيلي، حيث اتفق فيما بين فرنسا والعراق على بيع الأولى للثانية مفاعلًا نوويًا للأغراض السلمية بصفقة تجارية غير عادية يربح فيها كل طرف ما يريد ربحه.

فالجانب العراقي بقيادة صدام حسين كان المكسب الفعلي له هو حصول العراق على المفاعل النووي بالمواصفات التي يحتاجها، مع صفقة تبادل تجاري جباره وقع عليها الرئيس الفرنسي جاك شيراك تنعش الاقتصاد الفرنسي.

بعد توقيع الاتفاق الثنائي بين فرنسا والعراق بشأن إنشاء مفاعل نووي على أرض العراق للاستخدامات السلمية، وكانت طموحات صدام حسين غير محدودة بشأن القوة والسلطة، حتى جلس المهيب صدام على كرسي الرئاسة ليقود العراق في اتجاه أن تكون واحدة من الدول الكبرى على مستوى العالم.

كان الحلم النووي العراقي هدفًا لا حياد عنه بالنسبة لصدام حسين، والذي رصد له مبالغ خيالية في مقابل أن تمتلك العراق مفاعلًا نوويًا بالمواصفات التي طلبها من فرنسا والتي وافقت على ذلك، وتم تحرير العقد بالفعل وأصبح قيد التنفيذ.

لم يكن الوضع قاصرًا على تجهيز المفاعل في فرنسا فقط، بل وبالطبع كان هناك جانب آخر يعمل في العراق ذاتها على قدم وساق في إنشاء المباني الخاصة بالمفاعل وتجهيزاتها وكل ما يلزم لذلك.

قدم إلى صدام حسين اقتراح يحمل اسمه بضمه إلى مجموعة العلماء والعاملين في تجهيز المفاعل النووي، وبعد طلب عمل تحريات سرية عليه وإثبات ولائه ووطنيته للقومية العربية وحسن سيرته، تم إلحاقه بعقد عمل إلى العراق، وسافر صحبة زوجته السيدة زنوبة علي الخشاني ليكون أحد العاملين في هيئة الطاقة النووية العراقية قبل أن يتم إلحاقه بعد ذلك في مشروع المفاعل النووي العراقي.

لم يستمر عمله فترة طويلة في هيئة الطاقة النووية العراقية، وتم إلحاقه مباشرة في مشروع المفاعل النووي العراقي، وسرعان ما تدرج في المناصب بعد إثبات الكفاءة العلمية والإخلاص والتفاني في العمل.

على الجانب الدولي لم تتقبل إسرائيل فكرة إنشاء مفاعل نووي في العراق مطلقًا منذ يومها الأول، وتبعتها الولايات المتحدة، ومارسا كثيرًا من الضغط السياسي على الحكومة الفرنسية لوقف هذا المشروع وسحب العقد المبرم بين فرنسا والعراق في هذا الشأن.

إلا أن الجانب الفرنسي كان يرى في ذلك صفقة لا يمكن تعويضها، خاصة ما يترتب عليها من آثار تبادل تجاري واسع بين الحكومتين الفرنسية والعراقية، ولكن أمام الضغوط السياسية والدبلوماسية التي كانت تمارسها أمريكا بالأيدي الصهيونية العالمية، تقدمت الحكومة الفرنسية باقتراح للمهيب صدام حسين رئيس جمهورية العراق أمام ما تتعرض له من ضغوط من حكومة الرئيس جيمي كارتر في محاولة لتليين الموقف، وكان مضمون الاقتراح المقدم هو استكمال فرنسا لتنفيذ العقد المبرم بشأن إنشاء المفاعل النووي العراقي بذات المواصفات الواردة في الاتفاق دون أي إخلال في ذلك من الجانب الفرنسي، ولكن مع تغيير واستبدال اليورانيوم بمادة أخرى تسمى (كراميل) يمكن أن تنتج طاقة نووية أيضًا ولكن لا يمكن أن ينتج منها قنبلة نووية، لكن صدام حسين رفض العرض المقدم من الجانب الفرنسي تمامًا وبشكل قاطع وأكد على أن الاتفاق هو الاتفاق.

الأمر الذي وضع فرنسا في مأزق سياسي مع حكومة الرئيس جيمي كارتر، وأصبحت فرنسا نفسها في حالة حذر من النوايا العراقية في هذا الشأن.

أمام التزام العراق بواجباته في الاتفاق الثنائي مع فرنسا بشأن المفاعل النووي، ومع الضغط في هذا الشأن، كانت فرنسا مضطرة إلى استكمال تنفيذ عقد المفاعل العراقي، ولكن أصبحت الخطى محفوفة بكثير من الحذر.

كان هناك تقدم ملحوظ على أرض الواقع في عجلة إنشاء المفاعل العراقي بما لا يخالف فيه الجانب الفرنسي مضمون الاتفاق، حتى جاء موعد تسليم العراق أول عينات اليورانيوم الذي سيستخدم في المفاعل القادم.

أرسلت فرنسا عينات اليورانيوم بعد تمسك العراق بذلك، واستبعدت تمامًا فكرة استخدام مواد بديلة.

عُرضت العينات على هيئة متخصصة في العراق كانت مكونة من رئيس هيئة الطاقة النووية العراقية، ورئيس مشروع المفاعل النووي العراقي، وكان العضو الثالث هو بطلنا الذي نتحدث عنه.

عُرضت العينات على العلماء الثلاثة، وقبلها كل من رئيسي هيئة الطاقة والمفاعل النووي، إلا أنه وهو العضو الثالث رفض هذه العينات، فاستعجب من ذلك كل من العالمين العراقيين، وفي اجتماع مغلق جمع بين ثلاثتهم فند وجهة نظره العلمية ببراعة في تحليل العينات المرسلة وقبولها على هذا النحو وما سيترتب عليه ذلك من مخالفة لطبيعة الاتفاق ذاته.

اقتنع كلاهما بوجهة نظره وتم رفض العينة.

وصل الخبر بكل تفاصيله إلى الرئيس صدام حسين، والذي انتبه إلى مدى قدرة العالم المصري وإمكانياته العلمية، بل وضرورة وجوده في المشروع والتمسك به، خاصة بعد ثبوت انتمائه العربي الأصيل، والذي كان وكأنه في العراق أحد أبناء هذا البلد العربي.

فكانت علاقاته مع العراقيين على كل المستويات، سواء الشخصية أو الاجتماعية أو العملية، جيدة جدًا، وأصبح شخصًا محبوبًا من رؤسائه ومرؤوسيه.

تكرر موقف إرسال عينات اليورانيوم من فرنسا إلى العراق ثلاث مرات، وفي كل مرة يرفض العالم المصري العينات بحجة أنها لا تتطابق مع المواصفات التي أبرمت في العقد بين الجانبين الفرنسي والعراقي، وفي النهاية وأمام قدراته العلمية غير العادية عجزت فرنسا عن إقناع الجانب العراقي بقبول العينات المرسلة، فما كان من فرنسا إلا أنها طلبت حضور العالم المصري إلى فرنسا للاطلاع على العينات الفرنسية في المعامل ذاتها بسيرسيلي، وعلى ذلك وُجهت الدعوة للدكتور يحيى المشد أن يسافر إلى فرنسا ليقوم هو شخصيًا بفحص العينات في معمل مصنع سيرسيلي النووي شمال باريس.