رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أسرار العالم الخفى لبيزنس «الشهادة الزور» أمام المحاكم المصرية

محكمة - أرشيفية
محكمة - أرشيفية


«شاهد شاهد شاهد».. هكذا ينادي من يطلقون على أنفسهم «شهود تحت الطلب»، فعندما تطأ قدماك أمام المحاكم المصرية، يهمس إلى مسامعك أحد هؤلاء ينادي بصوت خفيف «عاوز شاهد»؛ حينها تعلم أن هناك «بيزنس خفي» لهذا الأمر، لاسيما أنهم يضعون تسعيرة لشهادتهم أمام المحاكم تصل في بعض الأحيان من 300 إلى 500 جنيه على حسب كل قضية؛ ويكون الدفع مسبقًا.

في هذا الصدد تفتح «النبأ» هذا الملف الشائك؛ لتكشف خفايا العالم السري لشهود الزور، أو «الشهود تحت الطلب» كما يطلقون على أنفسهم أو يسميهم المحامون الذين يلجأون إليهم في بعض الأوقات حتى لا يرهقوا أنفسهم في إثبات براءة موكليهم بالشكل القانوني، فضلًا عن أن الشهود هم محور الحكم في كثير من القضايا، وقد يترتب على شهادتهم أحكام على المتهمين تصل في بعض الأحيان إلى الإعدام، لذلك فإن الشهادة أمانة عظيمة يتحملها من يتصدى لها؛ ويجب أن يكون الشاهد على يقين تام بحقيقة شهادته ويتبين له بما لا يدع مجالا للشك أمام النيابة في محل التحقيقات وأمام ساحة المحكمة، لكن الغريب في هذا الأمر أن تجد من يبرر لهم ذلك بأن الشهادة تكون بالمعرفة.

تأدية الشهادة أمام المحكمة
ووضع المشرع المصري نص المادة 278 من قانون الإجراءات الجنائية والتى تنص على أنه «ينادى على الشهود بأسمائهم، وبعد الإجابة منهم يحجزون فى غرفة مخصصة لهم، ويخرجون منها بالتوالى لتأدية الشهادة أمام المحكمة، ومن تسمع شهادته يبقى فى قاعة الجلسة إلى أن تقفل باب المرافعة ما لم ترخص له المحكمة بالخروج، ويجوز عند الاقتضاء أن يبعد شاهد أثناء سماع شاهد آخر»، ونصت المادة 279 على أنه فى حالة تخلف حضور الشاهد بعد تكليفه جاز الحكم عليه بعد سماع أقوال النيابة العامة، فضلًا عن أن عقوبة الشهادة الزور تكون قاسية.

أسعار الشهود
وعلمت «النبأ» أنه يوجد أمام بعض المحاكم المصرية من يطلقون على أنفسهم «شهود تحت الطلب»، تتراوح أسعارهم ما بين 300 و500 جنيه في حالة الاتفاق على الإدلاء بشهادته أمام النيابة أو المحاكم، وعلى الرغم من أن الشهادة باليقين التام بحقيقة شهادته، إلا أنه تجد أيضًا من يبرر لهم بأن الشهادة بـ«المعرفة»، لكن يحدث في كثير من الأحيان أن يقع الشهود في تناقض أقوالهم أمام النيابة مع أقوالهم أمام المحكمة، فيتحقق لدى القضاء وجود خلل في شهادة الشهود، بما يجعلهم متهمين أمام القضاء بالشهادة الزور، وهنا تكمن المشكلة ويتحول الشاهد من وسيلة إثبات الحقيقة أمام المحكمة إلى وسيلة تضليل وتزييف للحقائق، ويتحول بشهادته الزور إلى متهم يقع عليه العقاب.

تهمة الشهادة الزور
ففي ديسمبر 2019 وجه المستشار محمد شيرين فهمى، تهمة الشهادة الزور لشاهد الإثبات محمد غالى عبدالرسول، «في القضية المعروفة إعلاميًا بـ«حرق كنيسة كفر حكيم»، وتم القبض عليه من داخل المحكمة، حيث ظهر اختلاف في أقوال الشاهد بالجلسة عما قاله من قبل أثناء التحقيقات، فوجهت له المحكمة تهمة الشهادة الزور، وهو الأمر المعاقب عليه قانونا طبقًا للمادة ٢٩٤ من قانون العقوبات.

الشهادة تصل لـ10 آلاف جنيه
ويروي «هاني. س»، محام بالنقض، تفاصيل مثيرة حول عالم شهود الإيجار قائلًا: «الصورة اختلفت عن الماضي فالأعداد كانت متضائلة قديمًا وأقصى ما كانوا يقومون به هو الشهادة علي عقد بيع تم تحريره بين طرفين ثم تراجع أحد الطرفين عن البيع فنلجأ وقتها لشهود للطعن على صورة العقد، ورغم أن الشاهد بالأساس لم يكن موجودا بالعقد إلا أنه يقسم بأن البيعة تمت أو لم تتم على حسب اتفاق المحامي، أما الآن تطورت المسائل لتصل إلى جرائم القتل والسرقة بالإكراه والخطف والاغتصاب وأيضًا السعر يتفاوت، فهناك شاهد قد يحصل على 300 إلى 500 عن كل قضية، وهناك آخر تصل شهادته إلى 10 آلاف جنيه، ويتفاوت السعر على حسب الوظيفة التي يعمل بها الشاهد، وأصحاب الوظائف هؤلاء سعرهم مرتفع حتى لا يشك القاضي بشهادتهم».

مافيا الشهادة الزور
ويقول «أحمد. م» محام بالاستئناف، إن الشهود علة كافة أشكالهم موجودون داخل المحكمة، هناك الشاهد الذي يضطر لارتداء البدلة، وآخر يطلق لحيته وهذا له سعر وذاك له سعر آخر، وهناك أشخاص ينظمون هؤلاء أعمال الشهود إما أن يكون سمسارًا أو محاميا أو شاهد زور قديما، يجمع كافة البيانات عن هؤلاء الشهود يقوم بتوفير الشخص المطلوب سواء كان رجلا أو امرأة، ويحصل في المقابل على نسبة من المبلغ.

ويكمل: «نظام عمل الشاهد معقد بدرجة كبيرة، فلا يمكن ظهوره أمام نفس الدائرة بالأسبوع الواحد، ويكتفي بالغالب في الإدلاء بشهادة مزورة أربع مرات بالشهر وأمام دوائر مختلفة بنفس المحكمة وفي كل مرة يغير من ملامحه، كأن يرتدي نظارة أو يحلق شعره وهكذا، وعلى الجانب الآخر يعمل بمحاكم أخرى بما يجعل حصيلة ما يتقاضونه مقابل ذلك العمل حوالي 2 إلى 3 آلاف جنيه شهريًا كحد أدنى».

جريمة الشهادة الزور
من ناحيته، يقول المستشار عمرو عبد السلام المحام بالنقض، إن جريمة الشهادة الزور تُعرف بأنها إقرار الشاهد أمام المحكمة بعد حلفه اليمين القانونية أقوالا يعلم أنها مخالفة للحقيقة بقصد تضليل القضاء أو الإدلاء بمعلومات تتعلق بجناية أو جنحة مع علمه بعدم صحة تلك المعلومات بقصد إعانة الجاني على الفرار من وجه القضاء، منوهًا أن المشرع الجنائي شدد في العديد من النصوص القانونية عقوبة الشهادة الزور باعتبارها من أخطر الجرائم الجنائية لإمكانية استخدامها في اغتصاب سلطة المحاكم، وهو الأمر الذى يسبب إخفاق العدالة وتتراوح عقوبة الشهادة الزور ما بين الحبس حتى الإعدام.

ويكمل: «كما تنص المادة 297 على كل من شهد زورًا في دعوى مدنية يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، والمادة 298 تنص على أنه إذا قبل من شهد زورًا في دعوى جنائية أو مدنية عطية أو وعدًا بشيء ما يحكم عليه هو والمعطي أو من وعد بالعقوبات المقررة للرشوة أو للشهادة الزور إن كانت هذه أشد من عقوبات الرشوة، وإذا كان الشاهد طبيبًا أو جراحًا أو قابلة وطلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعدًا أو عطية لأداء الشهادة زورًا بشأن حمل أو مرض أو عاهة أو وفاة أو وقعت منه الشهادة بذلك نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة يعاقب بالعقوبات المقررة في باب الرشوة أو في باب شهادة الزور أيهما أشد، ويعاقب الراشى والوسيط بالعقوبة المقررة للمرتشى أيضًا»، كما تصل العقوبة للإعدام حال إذا ترتب على الشهادة الزور الحكم على متهم بالإعدام وتم تنفيذ هذه العقوبة.

قول الزور رجس
بدوره، يؤكد الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى السابق، إنه لا يجوز للإنسان أن يشهد بما لم يره بعينه فلا يصح أن يقول سمعت أو نقل إلي إنما ينبغي على الشاهد أن يكون شاهد عيان وإلا كان شاهدا زورا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الطيور لتضرب بمناقيرها وتحرك أذنابها من هول الموقف ومن شدة قول الزور، بل جعله الله سبحانه «رجس»، فقال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه وكان متكأ فجلس فقال ألا وقول الزور ألا وقول الزور وظل يرددها حتى قلنا: «ليته سكت».


شاهد الزور لا دين عنده
ووصف رئيس لجنة الفتوى السابق، خلال حديثه لـ«النبأ» شاهد الزور بأنه إنسان «حقير، خسيس، لا أمانة له، ولا دين عنده»، مضيفًا أن شاهد الزور هو أول من ينقلب على من شهد معه لأنه أساء إلى من شهد عليه بأن أهانه وظلمه وخذله في وقت هو أحوج فيه إلى الناصر والمعين، وأضاع حقه، وخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره»، وأساء إلى من شهد له، حيث يريد أن ينفعه فأضره، أعانه إلى الظلم وأوقعه في الإثم، وأساء إلى القاضي، أتعبه، وأضنى فكره، وحير لبه، وضيع وقته، وأساء إلى الأمة بأسرها، لوث شرفها، وشوه سمعتها، وكل أمة فشى فيها قول الزور والكذب، سقطت من عيون الأمم، وأساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حيث خالف أمره ورفض هديه.

ماله سحت لا بركة فيه
ويكمل: «وإن كان شاهد الزور من أجل مال يأخذه؛ فهو سحت لا بركة فيه، وإن كان من أجل صداقة للمشهود فتعثم لهذه الصداقة، وعن عائشة رضي الله عنها تقول: من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، وإن كان يفعل هذا الزور بدافع العداوة والبغضاء بسبب تحريف الشهادة فما أجهله وما أتعبه؛ فقد أضر بنفسه قبل أن يضر بغيره، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰۖ وَاتَّقُوا اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وإن كان الباحث على شهادة الزور، خوفا من مكروه يناله إذا تحرى الصدق والصواب ونطق بالحق وفصل الخطاب فالصدق ينجيه وتقوى الله تحميه».

ويتابع: «عن مالك ابن أنس رضي الله عنه قال: بعث أبو جعفر المنصور إلي وإلى ابن طاوس، فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاد بأيديهم السيوف يضربون الأعناق. فأموا إلينا: أن اجلسا، فجلسنا، فأطرق عنا طويلًا، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدثني عن أبيك، قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله، فأمسك ساعة، قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا ابن طاوس، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول: ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد، قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأ ثيابي من دمه، فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، ثم قال: يا ابن طاوس، ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه، ثم قال: ناولني هذه الدواة: فأمسك عنه، فأمسك عنه، فقال: ما يمنعك أن تناولني؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية الله فأكون شريكك فيها، فلما سمع ذلك قال: قومًا عني قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم».