رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «36»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب



أذكر جيدًا خلال الشهور الستة التي كنت فيها عضوًا للإخوان المسلمين سنة 1947 أنني كنت أذهب كل يوم ثلاثاء للمركز العام للجمعية بحي الحلمية للاستماع لخطاب فضيلة المرشد الذي كان يلقيه كل أسبوع وكنت أنبهر أشد الانبهار لما أسمع منه وإن من البيان لسحرًا كانت كلماته تمس شغاف قلوبنا الشابة وتدغدغ مشاعرنًا تمامًا.



ثم جاءت حرب فلسطين وفي مايو سنة 1948 وكان متطوعو الإخوان المسلمين في طليعة من دخل فلسطين من المقاتلين حتى قبول دخول الجيش المصري يوم 15 مايو سنة 1948 ولم يتوقف أحد يومها ليتساءل من أين يأتي الإخوان المتطوعون بالسلاح وأين يتلقون تدريباتهم الحربية، وهل سيوجهون سلاحهم للعدو الصهيوني ثم يعودون لوطنهم أم أن السلاح العائد من فلسطين قد يوجه إلى صدور نظام الحكم المكروه الغارق في الفساد الذي يحكم في القاهرة؟



جذور الإرهاب الديني:



وما هي إلا أشهر قلائل حتى انتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربية وعودة مقاتلي الإخوان لمصر ليمارسوا الذي تكشف عن تنظيم سري للاغتيالات السياسية والتهميد لاستيلاءهم على الحكم بالقوة المسلحة.



كانت أول جريمة اغتيال يقوم بها الجهاز السري بعد حرب فلسطين هي جريمة اغتيال المرحوم المستشار أحمد الخازندار لأنه سبق له الحكم على بعض أعضاء الإخوان المسلمين أحكامًا بالسجن رأتها الجماعة قاسية، وأثارت هذه الجريمة المنكرة ثائرة الرأي العام إلى أقصى حد.



وكان المرحوم النقراشي باشا رئيسًا للوزراء وحاكمًا عسكريًا عامًا؛ لأن الأحكام العرفية كانت معلنة بسبب حرب فلسطين، ولم يجد النقراشي سوى إصدار أمرًا عسكريًا بحل الجماعة ومصادرة مقرها بالحلمية وغيره من المقراب ومصادرة أموالها واعتقال عدد من أعضاءها المتورطين في عمليات إرهابية.



وكان رد الجماعة على قرار حلها هو إصدار حكم بالإعدام على النقراشي دون المحاكمة وتم تنفيذ الحكم يوم 28 ديسمبر من نفس العام عند مصعد وزارة الداخلية حيث كان النقراشي متوجهًا لمكتبه بها وقُبض على القاتل الذي كان طالبًا بالطب البيطري وعضوًا في جماعة الإخوان المسلمين وتمت محاكمته وإعدامه.



وتولى رئاسة الوزارة بعد مصرع النقراشي المرحوم إبراهيم عبد الهادي باشا، رئيس ديوان الملك عندئذ والذي سارع الحزب السعدي الذي كان يرأسه النقراشي بانتخاب عبد الهادي رئيسًا له بدل النقراشي ورد الحزب السعدي على اغتيال النقراشي باشا بالثأر له بتدبير اغتيال المرحوم حسن البنا في طلع سنة 1949 ولم يحاكم المتورطون في قتله حتى من وقوع الانقلاب العسكري في يوليو سنة 1952 كما ذكرنا في الفصل الرابع.



كانت الشهور التسعة التي قضاها عبد الهادي رئيسًا للوزراء تعرف بحق أنها «عهد الإرهاب»، قام عبد الهادي باستعمال قوانين الطوارئ الممنوحة بحكم سلطته كحاكم عسكري إلى أقصى درجات العنف، قام باعتقال المئات من أعضاء الإخوان المسلمين وقيل وقتها أن عدد المعتقلين كان بالآلاف وتعرض المعتقلون لأشد وأبشع أنواع التعذيب الذي وصل كما رددت الأخبار والشائعات إلى العدوان الجنسي على الرجال لسحق كرامتهم واحترامهم لأنفسهم.



واستمر عهد الإرهاب هذه الأشهر طوال حكم وزارة عبد الهادي ثم رأى الملك ومعه البريطانيون أن البلاد توشك على الانفجار وأنه لابد من عمل شيء لتهدئة الأوضاع الداخلية والإتيان بوزارة شعبية تستطيع استئناف المفاوضات بين مصر وبريطانيا لتعديل معاهدة 1936 بما يرضي الشارع ولا يؤثر كثيرًا على سيطرة بريطانيا على مصر فقام الملك بتكليف عبد الهادي بالاستقالة وعهد بتشكيل الوزارة إلى المرحوم حسين سري باشا الذي كان شخصية محايدة غير حزبية وصديقًا قريبًا لبريطانيا وصهرًا سابقًا للملك حيث كان زوج خالة الملكة السابقة فريدة.



شكل سري باشا وزارة ائتلافية تضم كافة الأحزاب كانت مهمتها الوحيدة إجراء انتخابات لمجلس نواب جديد، وتمت الانتخابات في ديسمبر سنة 1949 وكالعادة اكتسحها حزب الوفد الذي فاز بأغلبية كبيرة وشكل النحاس باشا زعيم الوفد آخر وزارته في مطلع سنة 1950 وكان من أول أعمال وزارة الوفد إلغاء الأحكام العرفية وإخراج الإخوان المسلمين من المعتقلات ولم يبقى منهم قيد الاعتقال إلا من كان موجهًا إليه اتهام جنائي وكان ينتظر المحاكمة.



خرج الإخوان المسلمون من المعتقلات وانتخبوا مرشدًا عامًا جديدًا هو المرحوم المستشار حسن الهضيبي وسار النشاط السياسي للإخوان بعد خروجهم من المعتقلات سيرًا هادئًا جدًا، ودون محاولة إظهار وجود قوى على الساحة السياسية لسببين فقد كانوا خارجين من المعتقلات معذبين مدمرين في روحهم المعنوية إلى حد كبير وفضلًا عن ذلك كان حزب الوفد يسيطر على الأغلبية الشعبية ويتولى الحكم ويدير مفاوضات مع بريطانيا كما فصلنا في الفصل الرابع كانت مصر كلها عندئذ تحبس أنفاسها انتظارًا للنتيجة وتضع ثقتها في الوفد وزعيمه.



ولذلك لم تكن لدى الإخوان المسلمون في هذه الفترة فرصة لإثبات الوجود على الساحة السياسية فقد كانت فترة التقاط أنفاس بالنسبة لهم ولما سارت حكومة الوفد في مفاوضاتها مع الإنجليز في طريق مسدود كما هو موضح تفصيلًا بالفصل السابق طوال سنة 1950 وحتى إلغاء المعاهدة في 8 أكتوبر سنة 1951 وبدأت مرحلة الكفاح المسلح مع الإنجليز وظل دور الإخوان المسلمين سلبيًا إلى حد مريب فلم يكن لهم دور في الكفاح المسلح ضد بريطانيا.



وحتى بعد حريق القاهرة وإقالة حكومة الوفد في 27 يناير سنة 1952 وبدء مرحلة الستة شهور الأخيرة من حكم الملك فاروق ظل موقف الإخوان المسلمين سلبيًا إلى حد كبير ثم حدث قبل خلع فاروق بحوالي الثلاثة أشهر أمر غاية في الغرابة وقتها فقد نشرت جريدة الأهرام لافتة أن «سعادة المستشار حسن الهضيبي بك» المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين قد تشرف أمس بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك في اجتماع اقتصر عليهما ولم تذع الأهرام أو غيرها من الصحف أي سبب لهذا اللقاء المريب في وقت كانت الثورة الشعبية على وشك الانفجار وتكفلت الشائعات بشرح أسباب اللقاء.



فقال بعضها أن الملك كان يحذر مرشد الإخوان من انسياقهم في أعمال عدوانية ضد القوات البريطانية، وقالت بعض الشائعات الأخرى أن الملك كان يحاول استقطاب الإخوان المسلمين لصفه لاستعمالهم ضد الوفد عند الزوم سواء في انتخابات برلمانية قد تفرض على الملك أو في عمليات عنف تقوم بها الإخوان ضد الوفد لو احتاج الملك ذلك.