رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «26»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


وفي هذه الأثناء كانت حدة المرارة بين سوريا ومصر التي سببها الانفصال سنة 1961 قد خفت وبدأ الضباط القوميون في سوريا يناقشون من جديد فكرة الدولة العربية الموحدة والتي تضم العراق إلى جانب مصر وسوريا ودارت مباحثات ومشاورات واجتماعات متواصلة بين الأطراف الثلاث، وكان دور حزب البعث العربي ومؤسسه ميشيل عفلق واضحًا في هذه المباحثات وكان عبد الناصر يتولى بنفسه رئاسة الجانب المصري وكان عبد السلام عارف على رأس الوفد العراقي بينما كان الوفد السوري برئاسة اللواء لؤي الأتاي أحد كبار الضباط القوميين الساعين لإعادة الوحدة بين مصر وسوريا في الجيش السوري.


ومع الأسف فإن الأشهر الطويلة التي استغرقتها هذه المباحثات بين الأطراف الثلاثة قد انتهت إلى لا شيء وكان الخلاف بين الأطراف حول مفهوم ونوع الوحدة اندماجية أم فدرالية ذات اقتصاد حر أم تسطير عليه التأميمات التي كانت تسيطر على الاقتصاد المصري منذ قوانين التأميمات الشهيرة التي أعلنها عبد الناصر في يوليو سنة 1961.


وهل يسمح بتعدد الأحزاب لو تمت الوحدة الثلاثة أم تحل كلها وتندمج في تنظيم واحد كما حدث عند إقامة الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958.


وبحلول عام 1964 كان الكلام عن الوحدة الثلاثية قد خفت حدته وتلاشى تدريجيًا وذهب كل من الفرقاء الثلاث في طريق وإن بقت شعارات الوحدة العربية تتردد ككلام رومانسي على عادة العرب الذين تخلق لهم لغتهم الجميلة عالمًا من الوهم الحالم يغنيهم عن الواقع المرير الذي يعشونه.


ففي سوريا بدأ الصراع على السلطة بين الضباط القوميين وكان أمين الحافظ رئيسًا للأركان ثم حاكمًا فعلًا منفردًا بالسلطة بين سنتي 1963 و1965 ثم وقع انقلاب عسكري أطاح به بقيادة ضباط وساسه قوميين أيضًا، وعلى رأسهم اللواء حافظ الأسد الذي كان وقتها قائد سلاح الطيران السوري، وكان الأسد ومعه نور الدين الأتاسي من القوميين الأكثر تطرفًا في حزب البعث واستطاع الأسد إقامة دكتاتورية صارمة في سوريا مستندًا على الطائفة العلوية التي ينتمي لها وأطاح دون رحمة بأي معارضة وظل يحكم سوريا حكمًا مُطلقًا حتى وفاته في سنة 2000، وحل محله ولده بشار الذي مازال حاكم سوريا الدكتاتوري الذي يخوض منذ 2011 حربًا أهلية طاحنة ضد شعبه مازالت دائرة إلى الآن، ولكن هذه قضية أخرى ليست موضوع هذا الكتاب.


وفي العراق تمخض صراع السلطة بين الضباط المسيطرين على الحكم ومقتل عبد السلام عارف في حادث طائرة لا يعرف للآن إن كان مدبرًا أم قضاء وقدرًا وحل محله أخوه عبد الرحمن عارف الذي وقع ضده انقلاب بعد شهور قليلة، وانتهى صراع السلطة في العراق إلى انفراد ضباط حزب البعث العراقي دون غيرهم من الضباط القوميين بالسلطة وكان على رأسهم اللواء أحمد حسن البكر الذي أصبح رسميًا رئيسًا للعراق من سنة 1968 حتى سنة 1979 عندما أقصاه عن السلطة في يده وهو صدام حسين أشهر الطغاة العرب الذين رفعوا بلدهم إلى قمة التعليم والتصنيع في العالم العربي حتى وقف العراق على أبواب العالم الثاني بعد أن كان دولة من العالم الثالث المختلف ثم هوى صدام بالعراق نتيجة ديكتاتوريته المجنونة ونتيجة مغامراته العسكرية الأكثر جنونًا إلى حضيض الدمار والاحتلال الأمريكي ولكن تلك بدورها قصة أخرى ليست موضوع هذا الكتاب.


أما مصر في مطلع سنة 1965 فقد بلغت الحالة الاقتصادية أقصى دراجات السوء نتيجة النزيف الذي كانت حرب اليمن تسببه للاقتصاد المصري، وكانت مصر قد ارتبطت تمامًا في إعادة تسليح جيشها بأسلحة سوفيتية بدل السلاح الغربي الأمريكي الذي كان الجيش المصري قائمًا عليه وكان الاستقطاب والتوتر الدولي قد بلغ مداه بين موسكو وواشنطن نتيجة عدة عوامل خلال الحرب الباردة الدائرة عندئذ وكان على رأس هذه العوامل الحرب الشرسة الدائرة عندئذ بين الشرق والغرب فوق أرض فيتنام التي كانت في الواقع حربًا عالمية ثالثة بالوكالة طرفها أمريكا أساسًا من ناحية وشعب فيتنام ووراءه موارد الصين وروسيا العسكرية والسياسية من الناحية الأخرى.


وكانت أمريكا عندئذ تحت رئاسة ليندون جونسون تجاهر مصر بالعداء السياسي وتحاول خنقها اقتصاديًا بالتسويف في صفقات بيع القمح الأمريكي لها، وكانت مصر عبد الناصر تبادلها بالعداء الذي كان يتفجر أحيانًا إلى ما دون اللغة الدبلوماسية.


وكانت أمريكا في نفس الوقت بالتعاون الكامل سرًا مع إسرائيل وبعض دول الغرب المعادية لعبد الناصر تنصب شباك الفخ الذي تعده لعبد الناصر والذي انتهى بحرب سنة 1967 التي نجحت أمريكا في استدراج عبد الناصر للقيام بدور البادئ بالعدوان لقيامه بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية كما سنوضح في حينه.


وأعطي هنا مثلًا واحدًا عن مدى ما وصلت إليه الحالة الاقتصادية من شدة فقد اضطرت شركة الطيران المصرية الرسمية «مصر للطيران» التي كنت أعمل فيها عندئذ مديرًا لمكتبها في روما إلى تقلص بعض رحلاتها وإعادة النظر في بعض خطوطها طويلة المدى مثل رحلاتها للشرق الأقصى نتيجة عدم وجود ما يكفي من السيولة في العملة الصعبة لشراء قطع الغيار التي تحتاجها الطائرات أمريكية الصنع لصيانتها واضطرت الشركة إلى مزيد من الاعتماد على الطائرات روسية الصنع والتي لم يكن لها نفس القبول من الراكب مقارنة بالطائرات الأمريكية الصنع.


هزيمة 1967 وتوابعها:


نعود لجونسون وتربصه بمصر فقد وقع عبد الناصر في خطأ كبير في أواخر سنة 1966 وأوائل سنة 1967 عندما شكل ما يسمى بلجان تصفية الإقطاع في الحكومة والشركات العامة والمقصود أن عددًا كبيرًا من موظفي هذه الهيئات كانوا مشكوكًا في ولائهم للاشتراكيين والتأميمات التي قام بها عبد الناصر فأراد بضربة واحدة «تطهير» الحكومة والجهاز الإداري منهم وبدلًا من أن يراعي عبد الناصر تماسك الجبهة الداخلية التي لم تكن لها أي ضرورة في ذلك الوقت، ويعتقد البعض أن عددًا من الملتفين حول عبد الناصر من أصحاب النفوذ دفعوه لهذه الخطوات وأمثالها بإيعاز سري من عملاء أمريكا بهدف زعزعة الجبهة الداخلية التي سيواجه بها عبد الناصر أمريكا.