رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «13»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


بعد حوالي ثلاثة أشهر من التثقيف الديني بدأت مرحلة التدريب على السمع والطاعة، كانت تطلب منا واجبات بسيطة أول الأمر مثل كتابة آية معينة أو حديث للمرشد العام وقراءته مع تفسيره على حلقات صغيرة من الشباب الذين كانوا يجتمعون معنا في مقر الشعبة أو مسجد السيدة زينب لهذا الغرض.


ثم تطور الأمر إلى تكليفات أصعب مثل الدعوة إلى الاجتماع في الصباحا لباكر لنصلي الصبح حاضرًا، وبدأ صوت في داخلي يقول لي أن الهدف ليس صلاة الجماعة في وقتها بقدر ما هو تدريب على الطاعة دون مناقشة.


وجاءت لحظة الفراق بيني وبين الجماعة بعد حوالي سبعة أشهر من انضمامي لها، فقد فاجأنا مسئول التثقيف في عصر أحد الأيام بإخطارنا بضرورة لقائنا أمام محطة السيدة زينب بقطار حلوان الساعة الرابعة صباحًا لأننا سنقضي اليوم كله بحلوان وربما نبيت بها لسماع حلقات دراسية يلقيها علينا بعض قادة الجماعة، ولما أبديت دهشه وسألت «الأخ» ناعم الحديث كيف أغادر منزلي في الثالثة صباحًا وماذا أقول لأسرتي رد عليّ في حسم وبشيء من الحدة: «يا أخ أحمد لا تناقش هذه أوامر عليا» وكان هذا هو أخر عهدي بالشعبة وبتنظيم الإخوان المسلمين وطبعًا لم أذهب لمحطة قطار حلوان.


لم أتصور إنتمائي إلى تيار سياسي يحدد لي فكري وأفعالي ولا يسمح لطاقات فكري الخاص أن تنفجر بل ويتمرد على ما يفرض عليها من قيود، كانت هذه الاستقلالية الفكرية هي سبب تمردي على ما نشأت عليه من فكر الوفد الليبرالي ورغبتي في الإطلاع على تيارات الفكر المعارضة للوفد، رغم حبي لكل ما كان يمثله الوفد لي ولأسرتي ورغم تعلقي الشديد جدًا بأبي، وعندما علمت بعد عدة سنوات أن عضو الإخوان المسلمين عندما ينتهي تدريبه الذهني يتحول من مرشح لعضو عامل في الجماعة عليه أن يقبل يد المرشد العام ويقسم أمامه على المصحف على السمع والطاعة له، تعزز رأي في استحالة وجودي عضوًا في جماعة هذا إطار تفكيرها، وأنني كنت محقًا تمامًا في إنهاء عضويتي بها.


كانت خطواتي التالية هي الاتجاه كلية نحو اليسار بفرعيه الاشتراكي المعتدل والشيوعي المتطرف، انهمكت في قراءة الفكر اليساري إنهماكًا محمومًا، كنت أقرأ كل ما تقع عليه عيناي من هذا الفكر، بدأت بالكتب التي كانت شهيرة جدًا وقتها وكانت أقرب إلى الفكر الإصلاحي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية منها إلى الفكر اليساري الصرف.


كان عل رأس الكتب التي بدأت بها كتب المفكر الراحل خالد محمد خالد، وكانت قد أحدثت ضجة سياسية كبيرة وقتها، وكانت على رأس هذه المجموعة كتب «من هنا نبدأ» و«مواطنون لا رعايا» و«حتى لا تحرث في البحر» وكانت هذه الكتب الثلاث بالذات هي أول ما استوعبت سياسيًا وأول جرس إنذار لي ينتهي إلى مدى الخواء الفكري الذي كنت عليه وأن الرحلة الذهنية أمامي طويلة جدًا وشيقة جدًا جدًا.


ثم بدأت أقرأ كتب الاشتراكية الحديثة ومخططات الغرب لنهب ثروات منطقتنا مثل كتاب المرحوم الدكتور راشد البراوي «حرب البترول في الشرق الأوسط» وسلاسل الكتب السياسية التي كانت تصدرها دار المعارف ومؤسسة المصور التي كانت مازالت ملكية خاصة لأسرة جورجي زيدان الشامية الأصلية، وكانت تغطي مساحة ضخمة من القضايا السياسية المحيطة بالمنطقة، وكانت كلها معلومات جديدة وشيقة بالنسبة لي استوعبها عقلي بسرعة واهتمام بالغين وأمتصها كما يمتص الإسفنج الماء.


كانت قراءتي كلها في هذه الفترة في مطلع الخمسينات عقب التحاقي بكلية الحقوق، كانت قراءاتي كلها بالغة العربية، حيث لم يكن مستواي في اللغة الإنجليزية يزيد عن مستوى حامل الثانوية العامة من المدارس الحكومية، كنت قد درست اللغتين الإنجليزية والفرنسية بالمدارس الحكومية وكان مستواي فيهما كتابة وحديثًَا مستوى معقول، ولكن لم يكن المستوى الذي يسمح لي بقراءة كتب السياسة والأدب العالميين من منابعهما.


وعندما كان يتصادف قراءتي لتقرير هام بالإنجليزية مثلًا خاصة بعد صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الذي هزني واضطرني لمتابعة القضية، كنت أضطر للرجوع إلى القاموس العربي الإنجليزي عدة مرات في الصفحة الواحدة مما جعل القراءة بالإنجليزية عبئًا ألجأ إليه عند الضرورة وأبحث عن ترجمته العربية أولًا.


وفجأة في أوائل صيف سنة 1950 عندما كنا نستعد لإمتحان السنة الأولى بكلية الحقوق كانت العادة أن يحضر لمنزلنا يوميًا طوال الشهرين الأخيرين قبل الامتحان إثنان من زملائي المقرين وكنا نستعمل غرفة مكتب جدي الفسيحة في الدور الأرضي للمنزل الكبير الذي كان يضم جناح لأبي وأسرته والجناح الأخر لعمي وأسرته، والجناح الوسط الذي يربط بينهما كانت تشغله جدتي لأبي.


كان زميلاي يحضران لي للمذاكرة ونسهر معًا لمراجعة دروسنا في هذا الدور الأرضي من المنزل الذي كان يسمى «السلاملك» فجأة حضر زميلاي ومعهما زميل ثالث بنفس دفعتنا كنت أعرفه عندئذ معرفة سطحية وهو المرحوم محمد مستجير مصطفى الذي كنا نسميه مستجير، وكان شقيقًا للعالم الزراعي المصري الشهير المرحوم الدكتور أحمد مستجير.


انضم مستجير إلى ثلاثيتنا للاستذكار معًا، وخلال فترات الراحة الضرورية وسط ساعات الاستذكار كنا نتطرق للحديث في السياسة، فقد كانت حكومة الوفد برئاسة الزعيم الخالد مصطفى النحاس باشا وقتها في الحكم وكانت في عمق مفاوضتها مع بريطانيا لجلاء جنودها عن مصر، وكانت حرب فلسطين التي اندلعت عند قيام إسرائيل في مايو سنة 1948 قد انتهت بهدنة بعد هزيمة الجيوش العربية.


وأصبحت دولة إسرائيل حقيق واقعة وكان الجو الدولي ملبدًا بالغيوم نتيجة الحرب الباردة التي بدأت بين المعسكرين الغربي بقيادة أمريكا، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي وفعلًا تطورت الغيوم السياسية إلى حرب طاحنة عندما هاجم القسم الشمالي من كوريا والذي كان تحت الحكم الشيوعي على القسم الجنوبي الذي كانت تحتله أمريكا واستمرت الحرب الطاحنة ثلاثة سنوات ولكن لهذا حديث أخر نسرده في حينه.