رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

جمال البنا ودعوة «الإحياء الإسلامى»

عمار على حسن
عمار على حسن

كان الأستاذ جمال البنا إنسانا بسيطا، وهكذا كانت جنازته. نفر قليلون جاءوا يجاهدون زحام الشوارع والغربة والخوف من المجهول ليجدوه مسجى فى قلب صندوق، لا ينتظر شيئا من أحد. عاش غريبا ومات غريبا، فطوبى للغرباء....

كان زاهدا مكتفيا بالقليل، فجلابيب قليلة تستر جسده، ولقيمات معدودات يقمن صلبه موزعات بلا عناية فى ثلاجة قديمة تسكنها العتمة، ورأسه كان مدفونا طيلة الوقت بين أكداس من الورق والجرائد بينما ترمى مكتبته العامرة بعض ظلها على نحافته، وهو جالس إلى مكتبه يدون ما جال بخاطر أو اختمر بذهنه فى دأب وإصرار ونشاط غريب، وكأنه شاب فى مقتبل حياته يسعى إلى أن يتحقق، ويجد لقدميه الغضتين مكانا فى الزحام.

خلفه نافذة صغيرة تطل على مدرسة خليل أغا، تلك التى ذكرها نجيب محفوظ فى ثلاثيته الشهيرة، وحل بها تلميذا بطله الذى لا يُنسى «كمال عبدالجواد»، وأمامه بضعة مقاعد متآكلة، انخفض حشوها، واهتزت أرجلها، وبعض مصابيح واهنة تتدلى من السقف لتحارب العتمة الراقدة بين رفين متوازيين من الكتب الموزعة على معارف شتى، ينيخان على مكتب آخر، وضع فوقه جمال عبدالناصر يده ليقرأ الفاتحة مع قادة الإخوان المسلمين، قبل أن يتنازعا ويأتى الخصام التاريخى والهجر والنبذ والاحتراب.

يستيقظ عند الفجر، يصلى ويجلس على مقعده، يقرأ ويكتب، ويواصل عصرا بعد ساعتين يخطفهما من الزمن فى قيلولة منتظمة، يحل فيها على سرير قديم بسيط، غارق هو الآخر وسط الكتب، ويطل هناك تلفاز كان يتابع فيه الحلقات التى سجلتها معه حول التجديد فى الفكر والفقه الإسلامى، والتى وصلت إلى تسعين حلقة.

كان شجاعا جسورا، لا يهاب أحدا، ولا يخشى فى الحق لومة لائم. يتلقى التهديد والوعيد من خصومه مبتسما، هازئا بأولئك الذين لا يستطيعون أن ينفعوا حتى أنفسهم، فكيف يضرونه؟ ولم يكن لديه شىء يخسره. فلا منصب، ولا ثروة، ولا ولد. وحيداً مر على الدنيا، وذهب عنها على حاله.

كثيرا ما كان يقول إن بعض الذين يختلفون معه، ويقدحون فيه، ويهاجمونه حين يسألهم الناس عن آرائهم فيما يقول، يتصلون به سرا معتذرين، ويقولون له: لا تؤاخذنا فلدينا ما نخسره. المناصب والأموال، وأصحاب الأنياب الطويلة لا يرحمون أحدا، طاردوا محمد عبده وعبدالمتعال الصعيدى، والحبل على الجرار.

وكثيرا ما كان يبتسم ويقول: ما ينسبونه إلىّ لم أخترعه، فهو متواجد فى بطون كتب صفراء يحفظونها عن ظهر قلب، ويتلونها على أسماع الناس كما هى، ثم يستعين بقول زكى نجيب محمود ليصفهم بـ«الحفظة المتعالمين». وكنت أقول له: لمَ تنزلق إلى فخ ينصبونه لك، وبعد أن تقع فيه يهيلون التراب على كل ما كتبت؟ فكان يجيب فى ثقة: من يرد أن يعرفنى على حقيقتى فعليه أن يقرأ أكثر من مائة كتاب ألفتها. ثم يرفع هامته وينظر بعيدا ويقول: «سيعرفوننى بعد خمسين سنة»، ويردف: «لست فقهيا ولا مفتيا أنا كاتب». ويقرأ عن القصور والنساء والسيارات الفارهة التى يملكها تجار الدين فيضحك ويتساءل: أين زهد العلماء والتقاة؟ وأين كتبهم التى تحوى رأيهم هم وليس ترديد آراء الغابرين كالببغاوات؟ ويقرأ عن تخبط الحركة الإسلامية فى عوالم السياسة والاقتصاد والاجتماع فيقول: نصحتهم وقدمت لهم دراسات وتصورات لكن عقولهم جامدة، ومصالحهم الشخصية تطمس عقولهم وقلوبهم. ثم يتوه قليلا ويعود: «لو امتد الأجل بحسن البنا لغير الكثير من الأفكار، لكنه رحل مبكرا وتركهم يتخبطون».

فى يوم حضر ندوة بالإسكندرية وكان بها باحثون كثيرون من ماليزيا وإندونيسيا، وأمامنا وجدناهم يقبلون عليه بحفاوة شديدة، ويذكرون عناوين كتبه التى طالعوها وراقت لهم، ورأيتهم فمصمصت شفتىّ فى مرارة وقلت: «زامر الحى لا يطرب».

قبل أن يداهمه المرض الأخير زرته فى شقته الفقيرة ومكتبته الثرية، فوجدته ملهوفا يبحث عن أحد يوفر له مكانا يحوى كل هذه الكتب، حتى تنفع الناس. اتصل ببعض أهل المال، لكن أحدا لم يغثه، وها هو قد ذهب إلى ربه وتركها لنا، يريد منا أن نحميها من أن تنتحر على مشانق الجهل والإهمال واللامبالاة والتواطؤ.

أطلق البنا دعوة «الإحياء الإسلامى» التى ضمنها خلاصة فكره الإسلامى والسياسى والثقافى. ورغم أن الدعوة قوبلت فى البداية بتعتيم وتجاهل كاملين، فإنها لم تلبث أن شقت طريقها فى مصر والبلدان العربية والإسلامية، ولاقت اهتماما من هيئات دولية. وهذه الدعوة تخالف إلى حد كبير وبعيد ما تذهب إليه جماعة الإخوان، سواء فى أفكارها وأدبياتها أو فى حركاتها وأهدافها.

وهو يُعرف دعوة الإحياء فى بيان يشبه المانفستو بأنها تيار فكرى ونظرية فى فهم الإسلام، تصبح ملكا لكل من يؤمن بها، وترمى إلى إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية على أساس «إسلام الإنسان وليس إسلام السلطان»، وهى تقوم على المبادئ العامة الآتية:

1 ـ الإنسان المستخلف فى الأرض هو الغاية، والإسلام هو الوسيلة.

2 ـ المساواة فى الحقوق والواجبات بين الناس جميعا، وبلا استثناء، هى أساس المجتمع الإنسانى.

3 ـ العقل وما ينشأ عنه من علم ومعرفة هو ما يميز الإنسان، ولذا فهو أساس النظر الدينى.

4 ـ العودة إلى القرآن الكريم واعتباره «كتاب هداية» واستبعاد كل التفاسير وكل ما جاء به المفسرون، لا سيما ما يتعلق بالنسخ وأسباب النزول.

5 ــ يجب ضبط السنة النبوية بضوابط القرآن الكريم لتنقيتها من الدخيل.

6 ـ اعتبار الحكمة أصلا من أصول الإسلام، وهى كل ما انتهت إليه البشرية من أحكام ومبادئ وأصول ثبتت صلاحيتها على مر الأجيال.

7 ـ يجب تنظيم الزكاة بطريقة عصرية بما يؤدى إلى تحقيق الضمان الاجتماعى والتأمين.

8 ـ كل ما جاءت به الشريعة من أحكام عن الدنيويات، وسواء كانت فى القرآن أو السنة، إنما أنزلت لعلة العدل والمصلحة، فإن حدث تطور جعل الحكم الشرعى لا يحقق العلة، يجب أن نعدل فى الحكم بما يحقق الغاية.

9 ـ مجاوزة السلفية وعدم الاعتداد بها، فالسلفية هى الماضوية، ولا نستطيع أن نعيش حاضرنا فى ماضينا.

10 ـ حرية الفكر والاعتقاد مطلقة، والعلاقة بين الأديان السماوية الثلاثة هى علاقة تعايش.

11 ـ تحرير المرأة من الدونية التى جاءت بها بضعة أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وتقرير مساواتها بالرجل.

12 ـ استبعاد فكرة أن الإسلام يسيطر على كل شىء، فهو رغم أهميته القصوى، ليس إلا بعدا واحدا من أبعاد متعددة للحقيقة كالعلوم والفنون والآداب والفلسفة.

لقد رحل البنا وهو يتوقع أن ينفتح الباب عريضا لفكره، وأن يعاد اكتشافه حتى ولو بعد نصف قرن، كما كان يتوقع دوما، ولذا صرخ فى آخر حياته قائلا: «إلى كل الذين يؤمنون بأن الإسلام رسالة، والذين يؤرقهم التساؤل، نقول لا تيأسوا. لقد رسمنا الطريق، وبدأنا المسيرة، وندعوكم للمشاركة». والأيام القادمة كفيلة بالبرهان على أن ما نادى به كان نبوءة ستقف على قدميها ذات يوم، أو مجرد أضغاث أحلام، جعلها الزمن نسياً منسياً.