رئيس التحرير
خالد مهران

عقب مؤتمر الصحة والسكان والتنمية 2025.. «من الصعيد إلى الدلتا: أين تقف المحافظات في سباق التنمية البشرية؟»

جانب من المؤتمر
جانب من المؤتمر

تشهد مصر في السنوات الأخيرة تحولًا عميقًا في بنية التنمية البشرية، تحول لم يعد قائمًا على ضخ الاستثمارات في المشروعات فقط، بل على إعادة هندسة العلاقة بين المواطن والخدمة العامة، فالدولة لم تعد تكتفي بتوفير المدارس والمستشفيات، بل باتت تستهدف رفع جودة ما يقدَّم داخلها، وتقليص الفجوة بين المحافظات، وتوجيه الخطط التنموية وفق بيانات دقيقة تُحدِّد الاحتياجات الحقيقية لكل منطقة.

ورغم المكاسب الواضحة التي تحققت في قطاعات الصحة والتعليم والبنية الأساسية، فإن الصورة الكلية تكشف عن خريطة تنموية معقدة، تتداخل فيها النجاحات مع التحديات، ويتفاوت فيها مستوى الخدمات من محافظة إلى أخرى بشكل يعكس إرثًا تاريخيًا من التباينات، وتؤكد المؤشرات الأولية أن محافظات الصعيد، رغم التحسن الملحوظ، لا تزال في مقدمة المناطق التي تتطلب تدخلًا تنمويًا مكثفًا، في حين تشهد بعض محافظات الدلتا تطورًا يتجاوز المتوسط الوطني في مجالات التعليم الفني والتمكين الاقتصادي.

ومع تزايد أهمية قياس أثر البرامج التنموية، أصبح من الضروري رصد ما تحقق في المحافظات بعد  المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية (PHDC’25) بنسخته الثالثة، الذي عقد برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، تحت شعار «تمكين الأفراد.. تعزيز التقدم.. إتاحة الفرص»، والذي وضع الإنسان في قلب العملية التنموية وليس على هامشها. فالتنمية البشرية اليوم ليست مجرد أرقام تُعلن، بل مسار متكامل هدفه ضمان “جودة الحياة” وليس مجرد تحسين الخدمات.

كما أن التجارب الناجحة التي ظهرت في بعض المناطق تثبت أن التنمية ليست محصورة في العاصمة أو المدن الكبرى، بل يمكن تحقيقها أينما توفرت الإدارة الفاعلة، والمتابعة الحقيقية، ودعم المجتمع المحلي.

مسار التنمية البشرية

وأكد الدكتور الحسين حسان الخبير التنموي أن ما تحقق في بعض المحافظات خلال السنوات الأخيرة يمثل “تحولًا استراتيجيًا” في مسار التنمية البشرية، موضحًا أن الدولة لأول مرة تربط بين برامج الحماية الاجتماعية ومشروعات البنية الأساسية في إطار واحد، ما خلق أثرًا ملموسًا في القرى والمراكز الصغيرة التي كانت مهملة لعقود طويلة.

وأشار إلى أن محافظات الصعيد شهدت أكبر حجم من التحسن، خاصة في البنية الصحية والتعليمية، مضيفا أن برامج تحسين جودة الوحدة الصحية، وتوفير المعلمين، وتطوير المدارس، تركت أثرًا مباشرًا على المواطنين، لافتا إلى أن المبادرات الاجتماعية مثل تمكين المرأة وتوفير القروض الصغيرة ساهمت في رفع مستويات التشغيل داخل القرى.

ورأى الدكتور حسان أن التحدي الأكبر الآن ليس في “التوسع في المشروعات”، بل في الحفاظ على جودة الخدمة، ومعالجة الفجوات بين المراكز والقرى، وتقوية قدرات الإدارات المحلية على المتابعة والتقييم وإدارة الموارد، مؤكدا أن نجاح التنمية يتطلب استمرار الاستثمار في العنصر البشرى، وتوفير الكوادر المؤهلة، وتوسيع الشراكات مع المجتمع المدني والقطاع الخاص.

كما أكد على أن المحافظات التي تقدمت يمكن أن تكون “مراكز معرفة” تنقل خبراتها إلى باقي الجمهورية، شرط توفير آليات مؤسسية واضحة لتبادل التجارب الناجحة.

مستقبل التنمية في المحافظات

ومن جانبه أكد الدكتور ياسر عبد الرازق، خبير الإدارة والتنمية المحلية، أن مستقبل التنمية في المحافظات لن يتحدد فقط بحجم الإنفاق أو عدد المشروعات، بل بقدرة كل محافظة على بناء نموذج إداري محلي مرن ومتطور، لافتا إلى أن استمرار التحسن في مؤشرات التنمية البشرية مرهون بمدى قدرة الإدارات المحلية على قياس الأداء بدقة، والتعامل مع البيانات، وتوجيه الخطط وفق الاحتياجات الفعلية لكل منطقة، وليس وفق تقديرات عامة أو قرارات مركزية فقط.

وأضاف "عبدالرازق" أن أحد الأسباب الجوهرية وراء استمرار بعض الفجوات التنموية هو ضعف مشاركة المواطنين في صنع القرار المحلي، موضحًا أن المحافظات التي شهدت تحسنًا ملحوظًا كانت في الغالب تلك التي شارك أهلها بشكل مباشر في تنفيذ البرامج، سواء من خلال لجان تنمية أو مبادرات أهلية أو تفاعل مجتمعي واسع مع مشروعات البنية التحتية.

وتابع أن تعميم التجارب الناجحة بين المحافظات يتطلب ثلاث خطوات أساسية: إنشاء آلية وطنية لتجميع الخبرات وتبادلها بين المحافظات، وتوفير حوافز واضحة للمحافظات الأكثر إنجازًا،

وبناء نظام تقييم دوري شفاف يكشف أين تحقق التقدم وأين تراجعت الخدمات، مع تحديد أسباب القصور.

كما أكد على أن أكبر خطر يواجه التنمية ليس في نقص التمويل، بل في غياب الرؤية المحلية القادرة على استثمار الموارد المتاحة بذكاء، معتبرًا أن الإدارة الرشيدة أصبحت اليوم عنصرًا لا يقل أهمية عن التمويل نفسه