المهندس محمد الفيشاوى يكتب: حين يتغلب المال على السياسة والرياضة
في المجتمعات التي تنشد التقدّم، يُفترض أن تكون الكفاءة، والاستحقاق، والقدرة الحقيقية هي مفاتيح الوصول إلى المناصب القيادية والمجالات التنافسية، سواء في السياسة أو الرياضة. غير أن الواقع المصري – والعربي عمومًا – يكشف عن ظاهرة مقلقة يمكن تسميتها بـ "تحوُّل رأس المال المالي إلى رأس مال سياسي ورياضي"، وهي ظاهرة تُفسد المجالين معًا، وتُغلق الأبواب في وجه أصحاب المواهب والخبرات الذين يستحقون التقدُّم والارتقاء.
أولًا: رأس المال السياسي.. حين يتغلب المال على الإرادة الشعبية
السياسة، في جوهرها، هي فن إدارة الدولة وخدمة الناس. لكن حين تتحوّل البرلمانات والمواقع التنفيذية إلى ساحات لمن يملكون المال والنفوذ فقط، دون اعتبار للكفاءة أو الرؤية، فإن ميزان العدالة ينهار تحت وطأة الطمع والمصالح.
بدلًا من أن يتصدر المشهد أصحاب الضمائر والرؤى، نجد رأس المال يتقدّم الصفوف، يشتري الدعاية، يحشد الأصوات، وربما يتحكم في صناديق الاقتراع ذاتها. وهكذا لا نرى سياسيين حقيقيين، بل نرى وجوهًا تظهر وقت الانتخابات وتختفي بعدها، تنظر إلى المنصب كصفقة لا كخدمة، وتختزل الوطن في دائرة انتخابية.
بهذا الشكل، تتآكل السياسة، ويضيع دور البرلمان الرقابي والتشريعي، ويُغلق الطريق أمام من يريد أن يدفع بالوطن إلى الأمام.
ثانيًا: رأس المال الرياضي.. حين تُدفن الموهبة
حين يتسلل رأس المال إلى الملاعب، يتسلل معه المرض. فقد أصبحت الأندية الكبرى والأكاديميات والمناصب الرياضية تُمنح بناءً على القدرة المالية لا الموهبة. كثير من المواهب تُهدر لأن أصحابها لا يملكون ثمن الاشتراك أو تكلفة "الاختبارات"، ولا يعرفون أحدًا داخل المنظومة يفتح لهم الباب.
وهكذا يُستبعد المئات، ولا يُختار إلا القليل من "الاستثناءات" الذين تفرض موهبتهم نفسها رغم فقرهم.
اسألوا عن محمد صلاح، محمد زيدان، أبو تريكة، محمود الخطيب... جميعهم خرجوا من بيئات بسيطة، من قرى ونجوع وشوارع المدن، لا تملك إلا الإصرار والعمل.
الرياضة لا تحتاج إلا إلى موهبة وفرصة. وإذا ضاعت الفرصة، دُفنت الموهبة.
ثالثًا: حين يسقط الحق بين الناس
الجامع بين فساد رأس المال السياسي والرياضي هو إزاحة أصحاب الحق، وإحلال أصحاب النفوذ مكانهم. وهنا يهتز المجتمع من الداخل، لأن معيار النجاح يصبح لمن يملك، لا لمن يستحق.
ويصبح الحديث النبوي: "لعن الله قومًا ضاع الحق بينهم" أبلغ وصفٍ لهذا الواقع. تضيع القيم، تُقتل المواهب، وتنهار المصلحة العامة أمام الجشع، ويُختزل كل شيء في منطق السوق والصفقات.
رابعًا: الحل.. إعادة فتح الأبواب
لكي تستعيد السياسة والرياضة في مصر مكانتهما، نحتاج إلى:
- نظام شفاف وعادل لاختيار القيادات في كل المجالات.
- دعم منظم للمواهب الفقيرة عبر مدارس وأكاديميات حكومية محترفة.
- مواجهة ظاهرة شراء المناصب بكل حزم.
- إعادة الاعتبار لمبدأ الاستحقاق والجدارة.
- إعلام نزيه وثقافة مجتمعية واعية تحذر من خطورة ترك الساحة لأصحاب المال فقط.
إن رأس المال حين يصبح هو الطريق الوحيد للصعود، يفسد كل شيء: السياسة، الرياضة، وحتى روح المجتمع. لكن حين يُعاد فتح الباب أمام أصحاب الموهبة الحقيقية، يمكن أن نرى سياسيين حقيقيين ورياضيين كبارًا، كما رأينا في أجيال مضت صنعت اسم مصر بموهبتها وضميرها، لا بمالها ونفوذها.
دامت مصر طيبة، واعية، عادلة.
مهندس محمد الفيشاوى.
خبير التنمية البشرية.
دراسات عليا من المعهد العالي للدراسات الإسلامية.