رئيس التحرير
خالد مهران

سر العزوف عن زراعة القمح.. أزمة جديدة تواجه الأمن الغذائى فى مصر

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

تشهد مصر في الوقت الراهن تحديًا كبيرًا في ملف الأمن الغذائي، لا سيما فيما يتعلق بإنتاج القمح، أحد السلع الاستراتيجية الأساسية التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر.

ويُعد القمح من المحاصيل الاستراتيجية ذات الأهمية القصوى في مصر، نظرًا لارتباطه المباشر برغيف الخبز الذي يمثل عنصرًا أساسيًا في غذاء المواطن المصري. 

وتواجه الدولة تحديات متزايدة في سعيها لتحقيق التوازن بين حجم الإنتاج المحلي والاستهلاك المتنامي، في ظل عوامل اقتصادية وبيئية متشابكة، تتطلب حلولًا شاملة لضمان الأمن الغذائي وتعزيز الاكتفاء الذاتي.

وفي ظل الاعتماد الكبير على الاستيراد لتلبية احتياجات السوق، تتزايد الحاجة إلى وضع سياسات زراعية أكثر فاعلية، تدعم المزارعين، وتشجعهم على التوسع في زراعة القمح، مع توفير بيئة إنتاجية متكاملة تشمل التسعير العادل، والتقنيات الحديثة، والإرشاد الزراعي.

تراجع الإنتاج المحلي

من جانبه، يرى الدكتور الحسين حسان، الخبير في التنمية الريفية، أن إنتاج القمح المحلي في مصر يشهد تراجعًا واضحًا خلال العام الحالي، حيث يتراوح الإنتاج بين 8.5 إلى 9 ملايين طن، في حين يتجاوز الاستهلاك السنوي 18 مليون طن، مما يعني أن الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك تتراوح بين 9 إلى 10 ملايين طن يتم تغطيتها عن طريق الاستيراد.

وأكد «حسان»، أن مصر تُعد من أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم، حيث تستورد ما يصل إلى 12 مليون طن سنويًا، من دول مثل روسيا وفرنسا وأوكرانيا، مشيرًا إلى أن الأزمة الروسية الأوكرانية تسببت في ارتفاع كبير في أسعار القمح عالميًا، إلا أن استقرار الأوضاع مؤخرًا قد يسهم في تراجع الأسعار بشكل نسبي.

ولفت إلى أن تراجع الإنتاج المحلي يعود لعدة أسباب، أبرزها عزوف عدد كبير من الفلاحين عن توريد القمح للحكومة، وذلك بسبب ضعف سعر التوريد الحكومي مقارنة بأسعار السوق السوداء، حيث يبلغ سعر الأردب حاليًا حوالي 2000 جنيه، وهو غير كافٍ لتغطية تكاليف الإنتاج، خاصة في ظل الارتفاع الكبير في أسعار الأسمدة، والوقود، والمياه، والعمالة.

وأضاف أن تراجع مساحات زراعة القمح أيضًا نتج عن نقص المياه في بعض المناطق، مما دفع المزارعين للتحول إلى محاصيل أقل استهلاكًا للمياه، بالإضافة إلى تجزئة الحيازات الزراعية، والتعديات على الأراضي، وتراجع الإرشاد الزراعي وعدم وجود دعم مباشر للأسمدة والبذور والآلات الزراعية.

وأوضح «حسان»، أن غياب الحوافز وعدم وجود منظومة تسويق واضحة أو عقود زراعية مسبقة، كلها عوامل أضعفت حماس الفلاحين تجاه زراعة القمح.

وشدّد على أن حل أزمة القمح لن يكون من خلال الاستيراد فقط، بل من خلال إصلاح شامل للسياسات الزراعية والتسويقية، تبدأ من زيادة سعر التوريد وربطه بالسعر العالمي، وتوسيع الرقعة الزراعية في مشروعات مثل توشكى والدلتا الجديدة، وتوفير أصناف قمح عالية الإنتاجية ومقاومة للجفاف.

وفيما يتعلق بدعم رغيف الخبز، قال «حسان» إن ارتفاع تكلفة القمح المستورد يزيد من عبء الدولة، ويرفع من فجوة الدعم بين تكلفة الإنتاج وسعر البيع المدعوم لرغيف العيش، ما يخلق ضغوطًا مالية قد تؤدي مستقبلًا إلى إعادة النظر في منظومة الدعم بشكل تدريجي.

واختتم الخبير في التنمية الريفية تصريحه بالتأكيد على أن دعم الفلاح هو حجر الزاوية في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وليس الاعتماد على الاستيراد فقط، مشيرًا إلى أن مصر تمتلك إمكانيات كبيرة ولكنها تحتاج إلى إدارة فعالة وإصلاحات حقيقية، مضيفًا أن لدينا أكثر من 5 ملايين فدان مزروعة بالبرسيم، وهي مساحات يمكن إعادة توجيهها لتقليل الفجوة في إنتاج القمح.

الأزمة الحالية لا يمكن تجاوزها

ومن جهته، قال الدكتور السيد خضر، الخبير الاقتصادي، مدير مركز الغد للدراسات الاستراتيجية والاقتصادية، إن أزمة إنتاج القمح في مصر تتطلب تكاتفًا حقيقيًا من جميع الأطراف، سواء من الدولة أو من الفلاحين، مشيرًا إلى أن الأزمة الحالية لا يمكن تجاوزها إلا من خلال توفير حوافز تشجيعية حقيقية من قبل الدولة، تعمل على دعم زراعة القمح، وتوسيع مشروعات الاستصلاح الزراعي، بما يساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل فجوة الاستيراد بشكل فعّال، خاصة في ظل الزيادة المستمرة في معدلات الاستهلاك المحلي.

وأوضح «خضر»، أن الدولة لا تزال مضطرة إلى استيراد كميات ضخمة من القمح سنويًا لسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، الأمر الذي يؤثر سلبًا على الميزان التجاري ويشكل ضغطًا إضافيًا على الاقتصاد الوطني، لافتا إلى أن هذا التراجع في الإنتاج  يرجع إلى عدد من العوامل المعقدة، على رأسها التأثيرات السلبية لتغير المناخ على المحاصيل الزراعية، وارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج مثل الأسمدة والمبيدات والوقود، إلى جانب انخفاض الاستثمارات الموجهة للزراعة الحديثة وضعف إدخال التكنولوجيا في هذا القطاع الحيوي.

وأشار إلى أن هناك تراجعًا واضحًا في حماس الفلاحين لزراعة القمح، نتيجة تدني العائد الاقتصادي وضعف الأسعار المقدمة لهم، والتي لا تغطي التكاليف الفعلية للإنتاج، موضحًا أن عدم وجود تسعير عادل ومنظومة تسويق مستقرة، يدفع المزارعين إلى العزوف عن زراعة القمح، ما يزيد من الاعتماد على الاستيراد الخارجي ويجعل السوق المحلي عرضة للتقلبات العالمية.

وتطرق «خضر»، إلى التأثير المباشر لأزمة القمح على دعم الخبز، مؤكدًا أن ارتفاع أسعار القمح المستورد يؤدي إلى تقليص الدعم المخصص لرغيف العيش، ما يشكل عبئًا إضافيًا على الأسر ذات الدخل المحدود.

وأضاف أن هذه الأزمة قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار الخبز، ونقصه في بعض المناطق، إضافة إلى تدهور الجودة في ظل محاولة المطاحن تلبية الطلب باستخدام بدائل أقل جودة، وهو ما ينعكس سلبًا على المواطن المصري الذي يعتمد بشكل أساسي على الخبز في نظامه الغذائي اليومي.

وأشار إلى أن استمرار الأزمة قد يترك آثارًا نفسية واقتصادية على المواطنين، ويؤثر على استقرار السوق الداخلي نتيجة تذبذب الأسعار، إلى جانب التأثير السلبي على المخابز والمشروعات الصغيرة المرتبطة بإنتاج وتوزيع الخبز، موضحًا أن الاعتماد المتزايد على القمح المستورد في هذه الظروف يضر بالاقتصاد الوطني ويزيد من هشاشته في مواجهة الأزمات الدولية.

وفيما يخص الحلول الممكنة للخروج من هذه الأزمة، شدد الدكتور السيد خضر على ضرورة تحفيز الإنتاج المحلي من القمح من خلال تقديم دعم فعلي للفلاحين، سواء عبر حوافز مالية أو تقنيات حديثة تساعد في تحسين الإنتاجية.

كما دعا إلى تطوير التكنولوجيا الزراعية وتوسيع برامج الإرشاد والتدريب لزيادة وعي الفلاحين بأهمية زراعة القمح وكيفية الاستفادة من أساليب الزراعة الذكية.

وأكد على أهمية ضمان تسعير عادل للقمح المحلي وربطه بالأسعار العالمية لضمان جدوى اقتصادية للمزارعين، إلى جانب تحسين البنية التحتية الزراعية وشبكات الري، وتعزيز القدرة على تخزين القمح وتوزيعه بما يضمن استقرار الإمدادات الغذائية.

وشدد على ضرورة تنويع مصادر الاستيراد لتقليل الاعتماد على أسواق محددة والحد من تأثير الأزمات السياسية أو المناخية الخارجية.

وأكد على أن تحقيق الأمن الغذائي يبدأ من دعم الفلاح المصري، وتوفير بيئة محفزة له، والاعتماد على الإنتاج المحلي كرافعة استراتيجية بديلة عن الاستيراد المكلف وغير المستقر.