رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

حكايات الزيارات.. يا عمر «4»

خديجة جعفر - أرشيفية
خديجة جعفر - أرشيفية


الأحد 5 مارس 2017 شارع الشهيد العميد أسامة عوّاد..
 

تُفتَح البوابة الحديدية لمجمّع سجون طُرة، وتتّحرك خمس إلى ست مدرّعات أمن مركزي تباعًا من داخل السجن إلى خارجه. بعض المدرّعات سيبدأ رحلة قصيرة لا تزيد على خمسمائة متر لنقل عشرات المساجين إلى معهد أمناء الشرطة القريب جدًا لحضور جلسات محاكماتهم؛ وبعض المدرّعات الأخرى سيبدأ رحلة طويلة لنقل المساجين إلى أكاديمية الشّرطة في التجمّع الخامس.
 

عشرات المساجين إذًا في هذه العُلَب الحديديّة المحكَمة، يُنقَلون إلى جلسة روتينية في المحكمة.
 

 لا يهمّ من هو شخص عمر...المهم أنّ عمر هو لقب لكلّ سجين سياسي مجهول.  
شابَّان في مقتبل العمر، وفتاة ترتدي النّقاب، كانوا يقفون بالقرب من طابور الرّجال الفارغ تقريبًا، في حين يستطيل طابور النّساء حتّى نهايته.
 

وفي حين كانت أوّل ناقلة للمساجين تتحرّك، إذ قفز الثلاثة، راكضين بجانب المدرّعة محاولين اللحاق بها، وهم يصيحون بأعلى صوت ممكن: "يا عمر....يا عمر...يا عمر...ياعمر...."

كانت الفتاة تركض بأسرع ممّا يركض الشابّان الآخران، وكانت تصيح بأعلى ممّا يصيحان: "يا عمر....يا عمر...يا عمر...".
 

وقف شارع الأوتوستراد، بأمرٍ من ضابط شرطة، لتمرّ المدرّعات/ الناقلات تحمل المساجين، إلى الناحية الأخرى من الأوتوستراد... استمرّ الشباب الثلاثة في الركض، واستمروا في الصّياح: "يا عمر...يا عمر...يا عمر..".
 

وكأنّ الشباب الثلاثة كانوا يتوهمون أنّ عمر سيستجيب لصياحهم، وأنّه ربّما استطاع تلبية ندائهم، وإيجاد طريقة لفتح شبّاك المدرّعة بالغ الصغر، وبالغ الضيق، ومُحكم الإغلاق، ثمّ التلويح بيده لهم، معلنًا عن وجوده، وربّما سعادته بوجودهم! ولكنّ شيئًا من هذا لم يحدث!
 

ربّما لو كانت قد التُقِطت صورة لهذه اللحظة التي لم تستمرّ أكثر من نصف دقيقة، لكان قدّر لها أن تكون حديث مستخدمي التواصل الاجتماعي لأيّام. لم تُلتَقط صورة، ولكنّ ذاكرتي التقطت صورة لهذا المشهد الذي، في الحقيقة، لا تستطيع كلماتي وصفَه!
 

لا أدري لمَ اختار الشباب الثلاثة المدرّعة الأولى ليحاولوا اللحاق بها، وهم ينادون على عمر! هل كانوا يعرفون بوجوده في هذه المدرّعة تحديدًا؟ لم احتاجوا للركض خلف المدرّعة وإعلام عمر أنّهم هناك؟ هل لم يكن بإمكانهم زيارة عمر؟
 

رفيقتي في الطابور، قالت لي: قد يكون قد ظهرَ للتوّ من فترة اختفاء!
 

سرَت قشعريرة خفيفة في جسدي، أثناء الصياح المتعالي: "يا عمر...يا عمر...يا عمر..." وتحفزّ ذهني للحظات من أثر الوهم بأنّ عمر قد يستجيب للنداء، ويطلّ من الشباك، ويلّوح بيده للشباب الثلاثة الذين لا أعرف في الحقيقة ما صلتهم بعمر! هل هم إخوته أم أصدقاؤه؟ بل في الحقيقة، لا أعرف من هو عمر!
 

نعم، لا أعرف شخص عمر، ولكن أعرف أنّ عمر هو واحد من هؤلاء المعتقلين الذي لا يعرفهم أحد! فلا يتكلّم عنهم أحد!
 

لن يضرَّ عمر أنّ أحدًا لا يعرفه، ولا أحد يعرف إن كان عمر مستجدًا في أحد سجون مجمّع طرة، أو إن كان مكوثه هناك قد طال سنوات! لا يهمّ بالفعل، ما دام له هؤلاء الأحبّة الثلاثة الذين انتظروا أمام بوابة السجن، فقط، ليركضوا خلف الصندوق الأزرق البغيض، ويطمئنوا عمر أنّهم هناك...قد جاؤوا لأجله.

 
تبدو محاولة معرفة كلّ سجين سياسي بشخصه معرفة عسيرة، فكثير من القضايا السياسية يصل عدد المساجين فيها إلى عشرات، وأحيانًا إلى مئات.

 
 تبدو محاولة معرفة كلّ سجين سياسي بشخصه معرفة عسيرة، فكثير من القضايا السياسية يصل عدد المساجين فيها إلى عشرات، وأحيانًا إلى مئات.  

عندما عدت من رحلة طرة، علمت أنّ يوم الأحد كان يوم محاكمة 119 متهم فيما يسمّى إعلاميًّا باقتحام نقطة شرطة اطفيّح...وقعت هذه الأحداث في سبتمبر من عام 2013. وعلمت كذلك أنّ بعض المساجين كانوا يحاكمون فيما يعرف بأحداث بولاق الدكرور التي وقعت في إبريل من عام 2014.

 
قد يكون عمر سجينًا على ذمّة واحدة من هاتين القضيتين، وقد يكون سجينًا على ذمّة قضية أخرى لم تكتب عنها الصحف، ولا يعلمها أحد!
 

لا يهمّ من هو شخص عمر...المهم أنّ عمر هو لقب لكلّ سجين سياسي مجهول، اعتُقل بالاشتباه، وزجّ باسمه في قضيّة سياسية لا يعلم عنها شيئًا، ودفع من زهرة شبابه شهورًا أو سنوات، وله أحبّة يركضون خلف سجنِه المتنّقل، خلف المدرّعة، ينادونه: يا عمر...يا عمر....يا عمر..

نقلًا عن «مصر العربية»