محمد كمال يكتب: عملية سفنكس.. الحلقة الأولى
في غرفة مكتبه الفاخرة ذات الحوائط المكسوة بخشب الأرو الأنيق، وخلف بابه الخشبي ذي الضلفتين، يجلس تسقي زامير على مكتب خشبي ضخم أنيق. يحمل على أحد جوانبه جهاز كمبيوتر في زمنه كان هو الأحدث، وعلى يمينه بقايا مكتبه الخشبية وضع عليها عددًا من أجهزة التليفون الأرضية ذات الألوان المتعددة، فمنها الأبيض وآخر أسود وبجواره رمادي اللون وآخر بني وواحد يحمل اللون الأحمر.
أمام المكتب أربعة كراسي من الجلد الأسود الأنيقة تتوسطها منضدة خشبية من خشب الأرو الفاخر بذات لون مكتب تسقي زامير؛ وضع عليها لوحًا من الرخام المثقول الأبيض.
على الرغم من أن أرضية غرفة المكتب كانت من خشب الباركيه الفاخر، إلا أنه وضع أسفل المنضدة الصغيرة سجادة فارسية يدوية الصنع من النوع الفاخر.
ما زالت المسافة بين المكتب والكراسي من جانب وباب الغرفة من جانب كبيرة، فبالتأكيد لم تترك فارغة.
في زاوية الحائط الموجود به باب غرفة المكتب كانت هناك مكتبة خشبية من ذات الخشب وتحمل ذات اللون يقدر جناحيها بحوالي ثلاثة أمتار لكل جناح. بعض ضلفها كانت من الزجاج الفـميّ الغامق والبعض كانت من الخشب.
بين جناحي المكتبة وفي ذات الجانب يوجد منضدة اجتماعات كبيرة تحمل نحو اثني عشر كرسيًا.
على الجانب الآخر في جهة اليسار يوجد طاقم لصالون مذهب فرنسي الصنع.
ما بين منضدة الاجتماعات على يمين الداخل وبين طاقم الصالون المذهب ذو المنضدة ذات القرص الرخامي الأسود على اليسار يوجد ممر يصل بك إلى مكتب تسقي زامير الذي يوجد خلفه علم كبير أبيض اللون يحمل نجمة سداسية زرقاء.
أنت الآن في مكتب رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي في تلك الأيام.
جنرال تسقي زامير ذا البدلة البنية الأنيقة وصاحب الجسم النحيل طويل القامة، وقد لعب الصلع برأسه إلا أنه لم يكن يهتم بذلك كثيرًا، خاصة وأن جولد مائير رئيسة وزراء إسرائيل في لقائها الأخير به أوصته بأن يكون هناك تعاون بينه وبين جهاز أمان في هذه المهمة بشكل جيد ودون تناحر؛ فهذه المهمة يجب ألا تخطئ بأي شكل من الأشكال.
في هذا الصباح يدخل عليه مدير مكتبه بمذكرة آتية من جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية "أمان" وضعت في مظروف مغلق وكتب عليها "بمداد أسود" سري للغاية.
بالطبع وبحكم كونه يجلس على رأس جهاز الموساد الإسرائيلي، لم يتسرع في فتح المظروف إلا بعد تأكده من سلامة غلقه وأنه لم تمتد يد العبث إليه، خاصة بعد تأكده من العلامة السرية المتفق عليها ما بين الجهازين.
لم تكن المذكرة كبيرة الحجم، فهي لم تتجاوز الورقتين؛ كان جهاز أمان يطلب على وجه السرعة والدقة التفاصيل حول مراحل التطورات على صعيد المشروع العراقي.
فهم بالطبع زامير جيدًا فحوى الطلب الغامض الذي أرسل به جهاز أمان، ذلك الجهاز الذي استطالت أذرعه في الأونة الأخيرة أكثر من اللازم وأخذ يتغوّل فيما يخصه ويقع في دائرة اختصاصه وأيضًا فيما يخص اختصاصات غيره من الأجهزة الأمنية في إسرائيل.
كان ذلك سببًا كافيًا من وجهة نظر تسقي زامير لأن يحمل في قلبه غصة من ذلك الجهاز ورجاله المتطفلين ويجعل دائمًا علاقته هو وجهازه من جانب وجهاز أمان ورجاله من جانب على المحك دائمًا.
لكن هي مصلحة إسرائيل والتي يجب أن تعلو على أي خلافات جانبية، خاصة وأن موضوع الطلب الذي أرسل به جهاز أمان لهو موضوع غاية في الخطورة ويمس الأمن القومي الإسرائيلي مباشرة، ولن تسمح جولد مائير رئيسة الوزراء بأي حال من الأحوال بنفاذ ذلك المشروع حتى لو أدى ذلك إلى مواجهة عسكرية.
لذلك وعلى الفور أرسل في طلب ديفيد بايرن رئيس قسم التسومت في الموساد وهو القسم الخاص بعمليات التطويع للأفراد، وقام بتوجيهه مباشرة إلى البحث وإيجاد عراقي مرتبط بشكل أو بآخر بمصنع سرسيلي في فرنسا.
اجتمع بعدها على الفور ديفيد بايرن رئيس التسومت بزامير رجل الموساد أنيق المظهر، يتباحثان سويًا عن ما طلبه جنرال تسقي رئيس الجهاز.
كان بعدها مباشرة اتصال تلفوني بالسفارة الإسرائيلية في فرنسا، مكالمة وجهت إلى ديفيد أربيل رجل المخابرات في السفارة، ذلك الرجل الضخم ذو الشعر الأبيض والذي يتكلم عدة لغات.
استمع أربيل للمكالمة بكل عناية وهو في مكتب السفير، وانتقل بعدها إلى مكتبه في الخلية، وهي أسفل مبنى السفارة، وهي أيضًا مؤمّنة جدًا ضد المخاطر أو التجسس، خاصة أن سلطة أربيل في مبنى السفارة تفوق سلطات السفير ذاته؛ فكل مراسلات السفارة الصادرة أو الواردة تمر عليه أولًا ويُبدي فيها الرأي.
فرجال الموساد في السفارة الإسرائيلية في أي مكان يتحكمون في الحقيبة الدبلوماسية تحكمًا شبه كامل. بخلاف أنهم المنوطون على التأمين والمحافظة على منازل تُعرف باسم غرف العمليات.
وليس خفيًا أن السفارة الإسرائيلية في فرنسا وخاصة رجال الموساد فيها تملك حصة من السيّانا وهم المتطوعون اليهود من مختلف الأنواع والأشكال، وكان أحدهم اسمه الحركي "جاك مارسيل" وقد عمل في مصنع سرسيلي النووي. ولولا أهمية تلك العملية وضرورتها ما طُلب منه الحصول على ملفات الأسماء، خاصة وأن عملية أخذ أي ملف محفوفة بمخاطر بالغة، فكان دائمًا يقدم معلوماته وينقلها شفهيًا تجنّبًا لأن تتعرض السيّان إلى أي خطر، ولكن هذه المرة كانت الحاجة ماسة للملفات الأصلية، خاصة وأن الأسماء العربية معقدة، وهؤلاء العرب يستعملون أسماء مختلفة في أوضاع مختلفة، وللتأكد طلب من مارسيل الحصول على لائحة بكل الأعضاء العراقيين الذين يعملون هناك.
وفي ذات اليوم المتفق عليه، بعد أن أخبر جاك لهم أنه حصل على القائمة الأصلية للأسماء، طُلب منه وضع اللائحة في صندوق سيارته وطلب منه وآخرين اجتماعًا في شارع قريب من شارع المدرسة الحربية، وأخبروه أن هناك سيارة بيجو حمراء اللون ترقد ساكنة في الشارع تحمل لاصقًا معينًا على زجاجها الخلفي تم استئجارها خصيصًا قبلها بيوم لترقد في هذا المكان.
كان على جاك مارسيل حينما يصل إلى مكان السيارة أن يدور دورة أخرى بسيارته حتى يصل إلى نفس المكان الذي ترقد فيه السيارة البيجو الحمراء مرة أخرى، وعند إذ ستتحرك السيارة البيجو تاركة المكان خاليًا لسيارة جاك.
ولأن أحد رجال الموساد معه نسخة من مفتاح سيارة جاك وبعد التأكد من أنه غير ملاحق تم فتح صندوق السيارة وأُخذ منه القائمة التي تحتوي على الأسماء التي تعمل في المصنع من أصل عراقي.
في الرصيف المقابل يوجد مقهى فخم هادئ تم اختياره واختيار مكانه ومكان السيارة بعناية بالغة. دخل رجل الموساد وزميله المقهى، وبينما زميله يجلس يمازح النادل وهو يطلب ما سوف يشربون، دخل رجل الموساد الحمام وأخرج اللائحة وقام بتصويرها وكانت ثلاثة ورقات بكاميرا صنعت في الموساد ذات عدسات بالغة الدقة تستطيع أن تحمل بداخلها خمسمائة صورة، وهو رقم في هذا التوقيت بالغ السعة التخزينية لمثل تلك الكاميرات.
لا تنسَ أبدًا أنك الآن تعيش أحداثًا في سبعينات القرن الماضي.
أُعيدت النسخة الأصلية من لائحة الأسماء إلى سيارة جاك الذي أعادها إلى مكانها في اليوم التالي دون أن يلحظ أحد ذلك. وفي ذات اليوم وقبل أن يعود جاك إلى منزله تم إرسال لائحة الأسماء من كمبيوتر خاص في الخلية الموجودة أسفل السفارة في باريس إلى مقر الموساد في تل أبيب مع استعمال الشيفرة الخاصة والمتبعة في الموساد.
فإذا كان الاسم "عبد الله" مثلا فأن ع.ب يمكن أن تُسمّى 7ودلله 21. ولأجل تعقيد الأمور أكثر فأن كل رقم يحمل شيفرة معينة مثل حرف آخر أو رقم، وهذه الشيفرة تتغير أسبوعيًا؛ كل رسالة تخبر نصف القصة حتى تحمل شيفرة الشيفرة ع.ب بينما الأخرى د لله. وفي حالة التنصت على البث فإن ذلك لن يعني شيء للشخص الذي سيحاول فك هذه الشيفرة.
وبهذه الطريقة أُرسلت لائحة الأسماء إلى الموساد في تل أبيب.
نُسخت صورة من قائمة الأسماء في الموساد بعد فك الشيفرة من نسختين: واحدة عربية وأخرى عبرية وأُرسلت في مظروف مغلق كتب عليه "سري" لمقر أمان.
ولأن العاملين في مصنع سرسيلي ما هم في النهاية إلا علماء، فليس هناك أي معلومات عنهم باعتبارهم أشخاصًا عاديين لا تمثل أي خطورة من أي نوع.
لفت انتباه الضابط المسؤول في جهاز أمان أن هناك شخصًا واحدًا فقط في هذه القائمة التي تحمل أسماء العراقيين الذين يعملون في هذا المصنع له عنوان معلوم؛ فغالبًا باقي العاملين إما أن لهم سكنات داخل المصنع نفسه أو في جهات فرنسية أمنية هي المسؤولة عن ذلك.
بعد يومين رسالة مشفرة من الموساد تُرسل إلى جهاز الكمبيوتر الموجود في خلية فرنسا تطلب أكبر قدر من المعلومات الكافية عن ذلك الشخص.
بعد فك الشيفرة قرأ ديفيد أربيل الرسالة وكلف رجاله بلملمة كافة المعلومات عن حياة هذا الشخص وأكبر قدر من التفاصيل.
وكانت النتائج مكتوبة جاهزة في زمن قياسي على مكتبه يقوم بمراجعتها قبل إرسالها إلى مقر الموساد في تل أبيب.
كان متزوجًا مثلَه مثل ما يقرب من نصف العراقيين العاملين معه. عمره اثنان وأربعون عامًا. لم ينجب حتى الآن وليس هناك أي علامات تدل على حياة زوجية سعيدة.
الوحيد تقريبًا الذي يسكن في منزل خاص معلوم الآن ومعه زوجته.
ملاحظتان كانتا السبب في اختيار الهدف المطلوب: عُرِبِي يبلغ من العمر اثنان وأربعون عامًا ولم ينجب، وعدم وجود مؤشر يشير إلى حياة زوجية سعيدة سببان كافيان لأن يكون هو الهدف المطلوب بعينه.
أرسل ديفيد أربيل الرسالة بعد تشفيرها إلى الموساد في تل أبيب، ووقع الاختيار على الهدف، ولكن كانت الرسالة التالية من المقر في تل أبيب والتي كتبت بالعبرية: "עין אפס" وهي عبارة قوية تعني بالعربية أن هذه العملية يجب أن لا تخطئ.