< السيد خيرالله يكتب: ثوابت الدولة المصرية في مواجهة مخطط التهجير الصهيوني
النبأ
رئيس التحرير
خالد مهران

السيد خيرالله يكتب: ثوابت الدولة المصرية في مواجهة مخطط التهجير الصهيوني

خيرالله
خيرالله

منذ عقود طويلة ظلّت مصر حائط الصد الأول أمام كل محاولات العبث بخريطة المنطقة. تاريخها الممتد وثقلها السياسي، وموقعها الجغرافي، جعلها أكثر من مجرد دولة في الشرق الأوسط جعلها بوابة توازن، وضمانة استقرار، ورمانة ميزان لا يمكن تجاوزها. واليوم تعود القضية الفلسطينية لتضع المنطقة على المحكّ من جديد لكن ما يلفت الانتباه هو أن القاهرة لا تدافع فقط عن حدودها أو عن معبر رفح بل تدافع عن مبدأ وجودي بحجم أمة كاملة: لا تهجير للفلسطينيين ولا تصفية لقضيتهم.

من يتأمل الموقف المصري الأخير يكتشف أن المسألة لم تكن رد فعل على تصريحات من هنا أو تسريبات من هناك بل كانت تثبيتا لقاعدة راسخة في وجدان الدولة المصرية: أن الأمن القومي لا يُختزل في حدود جغرافية ضيقة، وإنما يمتد ليحمي هوية الأمة كلها. رفح لم تكن يوما معبرا حدوديا عاديا بل رمزا سياسيا ومن يظن أن مصر قد تسمح بمرور سيناريو تهجير جديد عبره لا يفهم لا التاريخ ولا طبيعة الدولة المصرية. فمصر تعرف أن قبول تهجير الفلسطينيين أيًا كانت المبررات يعني إسقاط القضية الفلسطينية من جذورها ويعني في الوقت نفسه فتح أبواب الفوضى على المنطقة كلها. فالتجارب المريرة علمتنا أن التهجير لا ينهي النزاعات بل يخلق نزاعات جديدة أكثر تعقيدا. قبول هذا السيناريو يعني ببساطة نقل الصراع من كونه بين شعب محتلّ وقوة محتلة إلى صراع وجودي بلا نهاية تتحول فيه الأراضي العربية إلى مخيمات مؤقتة وتتحول حقوق الشعوب إلى مجرد أرقام في سجلات الأمم المتحدة.

إن القاهرة وهي ترفض هذا السيناريو لا تدافع فقط عن الفلسطينيين بل تدافع عن استقرار الإقليم وعن أمنها القومي المباشر. فمن يضمن أن التهجير سيتوقف عند غزة؟ ومن يضمن أن الخرائط لن يعاد رسمها وفق ميزان القوة؟ من يفتح بابا واحدا للعبث بالثوابت سيجد نفسه مضطرا لمواجهة انهيار متسلسل لا يتوقف. لذلك فإن موقف مصر الحاسم لم يكن رفاهية سياسية بل ضرورة استراتيجية.

وما يميز هذا الموقف أنه جاء واضحا وحاسما بعيدا عن المساومات الدبلوماسية التقليدية. فبيان وزارة الخارجية لم يترك مجالا للتأويل: مصر ترفض رفضا قاطعا أي محاولة لتهجير الفلسطينيين عبر أراضيها وتتمسك بحل الدولتين كخيار وحيد لإنهاء الصراع. هنا تظهر مصر كصوت العقل لكنها أيضا كصوت القوة قوة تستمد مشروعيتها من التاريخ ومن عدالة الموقف ومن قدرتها على الدفاع عن مصالحها.

المثير في المشهد أن موقف القاهرة لم يأتِ منفردا. فقد انحاز له الرأي العام العربي وتماهت معه قوى دولية كبرى تدرك أن تهجير الفلسطينيين لن يحل الأزمة، بل سيفجر أزمات إضافية. لكن رغم ذلك فإن مصر تدرك أن الرهان الحقيقي ليس على المواقف الآنية بل على قدرتها على الصمود طويلا أمام الضغوط وتوظيف أوراقها السياسية والدبلوماسية بحكمة.

في هذا السياق لا بد من قراءة الموقف المصري في إطار أشمل: مصر لا تنظر إلى غزة فقط بل تنظر إلى الخريطة كلها. فهي تدرك أن التوازن في الإقليم يتعرض لتغييرات جذرية، وأن هناك محاولات مستمرة لإعادة صياغة المنطقة وفق مصالح قوى دولية وإقليمية. ولعل رفضها لسيناريو التهجير هو رفض ضمني أيضًا لفكرة إعادة تشكيل المنطقة على حساب الشعوب الأصيلة.

وإذا كان البعض يظن أن القاهرة تتحرك فقط بدافع الواجب القومي أو الأخلاقي فإنه يغفل أن المسألة تمسّ الأمن القومي المصري في الصميم. فأي تهجير للفلسطينيين إلى سيناء على سبيل المثال يعني إدخال الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني إلى داخل الأرض المصرية بما يحمله من مخاطر أمنية وعسكرية واقتصادية لا يمكن تصورها. ولعل هذا ما يجعل الموقف المصري غير قابل للمساومة أو التنازل.

إن قوة مصر الحقيقية لا تكمن فقط في جيشها ولا في موقعها الاستراتيجي بل في قدرتها على قراءة المشهد بحكمة وربطه بمعادلة كبرى. فهي تدرك أن الدفاع عن فلسطين اليوم هو دفاع عن مصر غدا وأن حماية القضية من التصفية هي حماية لمستقبل الأمة كلها. لهذا لم يكن غريبا أن تلتف النقابات العمالية ومؤسسات الدولة والرأي العام الوطني خلف الموقف الرسمي باعتباره تجسيدًا لثابت وطني لا يقبل الجدل.

ولأن مصر صاحبة رسالة قبل أن تكون صاحبة حدود فإنها لا تكتفي بالرفض بل تسعى إلى تقديم بدائل عملية. فهي تدفع باستمرار باتجاه استئناف المفاوضات وتتمسك بحل الدولتين وتدعم كل جهد دبلوماسي يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة. هذه ليست شعارات بل سياسة دولة تعرف أن الكلمة في السياسة لا تُحترم إلا إذا كانت مسنودة بالفعل.

وفي النهاية يمكن القول إن ما جرى ليس مجرد أزمة عابرة، بل اختبار حقيقي لمعنى "الأمن القومي" في القرن الحادي والعشرين. لم يعد الأمن مجرد سلاح وحدود بل أصبح أيضا هوية وقيم وثوابت. ومصر وهي تواجه سيناريو التهجير بكل وضوح تؤكد أن أمنها القومي بحجم أمة، وأنها ستظل كما كانت دائما الدرع الواقية للعروبة والعدل والحق. ولنا عودة