رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

العار

حلمي النمنم
حلمي النمنم


لا تكون المهمة أو المغامرة الصحفية مقصودة- غالبًا- لذاتها، ربما يكون الأمر كذلك لدى الصحفى الذى يتولى المهمة. «الصحافة للصحافة» تصح لدى بعض المحررين، الذين يهمهم تجويد الأداء المهنى وتحقيق خبطة صحفية تضيف إلى اسم كل منهم لمعانًا وتزيده بريقًا، لكن لدى الصحيفة أو المؤسسات الإعلامية لا يكون الأمر كذلك فقط، بل هناك الدور أو الرسالة.. وإن شئنا الدقة «المهمة والهدف السياسى».

أسامة بن لادن كان فى كهوف «تورا بورا» واستقبل هناك بعض الصحفيين، وأجروا معه لقاءات نُشرت وبُثت.. الآن وبضمير مستريح يمكن القول إن هؤلاء الذين التقاهم بن لادن لم تكن الصحافة لدى عدد منهم سوى غطاء لمهمات أو عمليات مخابراتية بامتياز قاموا بها، وأحيانا لا يقوم بهذه المهمات صحفيون بل رجال أمن يتم منحهم هويات صحفية لتغطيتهم، أحد قادة المجاهدين فى أفغانستان تمت تصفيته بهذه الطريقة، عبر عملاء بن لادن والظواهرى. وحدثنا عباس العقاد عن أنه فى أثناء الحرب العالمية الأولى كان الجواسيس الألمان فى مصر يعملون بالغطاء الصحفى أو صفة المستشرقين والباحثين عن المعرفة فى مكتبات مصر، خاصة دار الكتب المصرية فى مبناها العريق بمنطقة «باب الخلق».

مهمة «وجيه غالى» فى إسرائيل كانت كلها سياسة، رغم أنه حاول فى يومياته تصوير الأمر وكأنه رحلة للمتعة الشخصية فقط. كان وجيه مقامرا بالفعل ومغامرا أيضا، لكن يجب أن نتذكر دائما أنه فى لندن عمل موظفا لدى الجيش البريطانى فى أحد مقاره فى ألمانيا، ورغم عدم انضباطه الوظيفى وعدم رضا رؤسائه المباشرين عنه لم يُمس ولم تتوقف امتيازاته المادية، يعمل فى مؤسسة عسكرية إنجليزية، ويشرب أثناء فترة العمل حتى السُّكْر، لا يذهب فى مواعيده، وكثير الغياب.. ثم مكافآت.. هنا علامات استفهام عديدة، خاصةً أنه كان غير مؤهل علميًا وعسكريًا، لم يكن حصل سوى على شهادة مدرسة فيكتوريا بالمعادى.

حين وصل إسرائيل كان واضحًا فى لندن وغيرها من العواصم الكبرى أن إسرائيل لم تصل، كما حلمت جولدا مائير، إلى نهاية التاريخ مع المصريين والعرب بالانتصار السريع والخاطف عليهم فى الخامس من يونيو. كان عبدالناصر قد استعاد تسليح معظم قواته، كان واضحًا أنه ضغط على السوفيت بقرار التنحى، فوعدوه بالتعويض فى السلاح.. وقد عوضوه، وبدأ يعيد بناء القوات المسلحة، وتخلص من عبدالحكيم عامر وبطانته غير المؤهلة، تم استبدال قادة محترفين بهم، وقامت قوة مصرية بعملية رأس العش، وكان هناك تصميم على استرداد الكرامة أو «إزالة آثار العدوان»، واستعاد علاقاته العربية، خاصة مع الملك فيصل، وتلقى دعمًا عربيًا كبيرا فور الهزيمة مباشرةً، ولم يكن هذا ما تريده العواصم الكبرى، تصورت إدارة «جونسون» أن هزيمة عبدالناصر سوف تطيح به من المشهد، فإذا بها تؤكد وجوده وتزيد حضوره.. الذى أطيح بهم فعلا خصوم عبدالناصر فى الداخل المصرى ثم العربى.

فى تلك اللحظة ووسط هذه الحيثيات، يكون وجيه فى تل أبيب ولديه وسط حفلات الشراب والعربدة دور أو مهمة سياسية إلى جوار العمل الصحفى.. فى بداية الرحلة يذهب مع صديقه «مكسيم»، ويمكن القول إنه من المنتمين إلى ما أطلق عليه «اليسار الصهيونى» ومعهما «جيلا»، هى ابنة مهاجر أوكرانى وصل إلى فلسطين قبل أربعين عاما، وُلدت فى إسرائيل «تحب إسرائيل بشدة، وهو أمر مفهوم للغاية ومن الممتع رؤيته»، لكن ما لم يتفهمه هو مشاعرها تجاه العرب القائمة على الخوف والرعب «أعتقد أنهم إذا استطاعوا، فإنهم سيأتون ويذبحون كل واحد منا».. إنه يدرك صدق مشاعر الخوف لديها، لكنه لا يصدق فكرتها نفسها أن العرب يريدون ذبح كل إسرائيلى. الواضح له أن الخوف من الحالة النازية ومأساة اليهود على يد هتلر قد تلبستها بالنسبة للعرب ولعبدالناصر شخصيًا. نجحت الدعاية الإسرائيلية فى خلق تلك الحالة وتصوير عبدالناصر باعتباره «هتلر الصغير»، ولم يهتم عبدالناصر بدحض ذلك التصور، وفشل إعلامه أيضا فشلًا ذريعًا فى ذلك، بل إن ذلك الإعلام ساعد- أحيانًا- فى تأكيد تلك الصورة المغلوطة.

حاول وجيه تبديد مخاوف الفتاة وفق وجهة نظره الخاصة التى تقوم على أن «عبدالناصر ليس لديه، ولم يكن لديه، أى مشروع بشأن إسرائيل، باستثناء استخدامها لتوحيد العرب». المشكلة لم تكن فى عبدالناصر، بل رآها هو فى راديو «صوت العرب » وما يبثه، طال النقاش فى هذه القضية واستغرق الجلسة والليلة، والواضح أنه لم يحدث اتفاق، ولا كان مقنعا لهم.

هذه رؤية دقيقة ومتعمقة، وكانت معروفة جيدًا لدى قادة الغرب، بل قادة إسرائيل نفسها. فى أحد مؤتمرات القمة العربية أثير موضوع الهجوم على إسرائيل، ورفض عبدالناصر ذلك الاقتراح بشدة مؤكدًا عدم وجود خطة هجومية، وأن الظروف الدولية لا تسمح، إسرائيل دولة عضو فى مجلس الأمن، والقوى الكبرى فيه تضمن وجودها وعدم الهجوم عليها، تحديدا الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بل إن نهرو صديق عبدالناصر كانت علاقته ودية مع إسرائيل، هذه الجلسة كانت سرية ومغلقة على الرؤساء والملوك العرب، كان المؤتمر فى المغرب الشقيق، فيما بعد تبين أنه من خلال الجنرال أوفقير وقت نفوذه بالمغرب أتاح لإسرائيل أن تستمع إلى ما دار فى الجلسة السرية لحظة انعقادها.. تُرى، هل كان ذلك القول أحد الأسباب التى دفعتهم للتفكير فيما بعد فى الهجوم علينا؟!. كان المشروع الصهيونى يقوم على التوسع فى الأرض واختلاق عدو يرون فيه المبرر للتوسع، ولم يكن عبدالناصر محاطًا بمستشارين وأجهزة كفء تنبهه جيدًا لتلك المزالق، وطالما أنه ليست لدينا نية أو خطة للهجوم، فلماذا التلويح بالحرب وإعطاء المبرر لشنها؟!

بعدها بأيام ذهب وجيه إلى أحد فنادق القدس، فوجد وليمة وحفلا يفوق حفلات ليالى ألف ليلة وليلة، الحفل أقيم بمناسبة الانتصار على مصر، وهو داخله: «أى وطنى عاطفى كان ليموت من العار فى ظروف مماثلة»، ثم يضيف مع نفسه: «الشىء الذى أشعر به هو أننى أحب مصر أكثر من قادتها الحاليين». عمومًا، واضح أنه لم يكن «وطنيا عاطفيا»، إذ لم يشعر بالعار، استمع إلى كلمة القائد العسكرى الذى تحدث عن حرب ٤٨ وأنهم واجهوا عدة جيوش عربية جاءت لتهاجمهم، وها هم يكملون المهمة فى حرب يونيو، وتجاهل الجنرال حرب ٥٦. كان «تيدى كوليك» عمدة القدس فى الصف الأول، طلب منه أن يمنحه الفرصة كى يلقى كلمة عقب كلمة الجنرال، باعتباره مصريا موجودا فى إسرائيل، رفض طلبه بطريقة مهذبة.. لكن ماذا كان سيقول؟ هل كان سيتحدث عن إمكانية السلام والتعايش بين إسرائيل وجيرانها العرب؟ هل كان سيحذر من مخاطر الحروب ويطالب إسرائيل بإعادة الأرض التى احتلتها فى يونيو من السنة نفسها؟ هل كان سيهنئ قادة إسرائيل بالانتصار فى الحرب وفق قواعد أو بروتوكولات الاحتفالات، خاصة أنه حضر الحفل دون دعوة رسمية، فقط كان موجودًا بالفندق؟. عمدة القدس يعلل أنها حفلة عسكرية تخص القائد وهو مجرد ضيف، بعد الحفل جلس مدة مع العمدة، وكما قال هو لم يجد فى عقله شيئا، لكن الدقيق أن عمدة القدس لم يكن سعيدًا ولا مرحبًا بوجوده هناك فى تلك اللحظة، أرادوها لحظتهم هم وحدهم، رفضوا إعطاءه الكلمة، ما كان لديهم استعداد لسماع صوت آخر فى تلك اللحظة، كانت لحظة النشوة وامتلاك العالم، لا يريدون لأحد أن يذكّرهم بوجود - مجرد وجود - آخرين ينغصون فرحتهم ويفسدون عليهم تلك اللحظة، ما كانوا على استعداد للإفاقة من تلك النشوة!، سوف نلاحظ أنه لم يحاول الاقتراب من قائد الحفل ولا تحدث معه، لم يكن لديه استعداد لذلك، خاصةً أن العمدة أحاله إلى جنرال الجيش الإسرائيلى، لكنه تمسك بأنها مسؤولية العمدة. لا يتصور أحد أنه لم يكن يحب التعامل مع الجنرالات، فقد عمل عدة سنوات فى ألمانيا مع ضباط وجنرالات الجيش البريطانى.

ذكر أنه كان سيشير، لو أُعطى الكلمة، إلى حرب ٥٦.. عمومًا أن يتحدث ويتكلم فى ذلك الحفل عمل سياسى وليس ضمن المهمة الصحفية.

والحديث متصل..

نقلا عن "المصري اليوم"