رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

هنا سوهاج الأصول المصرية للحضارة الأوروبية

أحمد المسلماني
أحمد المسلماني

فى صيف 2018 أقام مركز جيتى «Getty» فى الولايات المتحدة معرضاً حضارياً بعنوان «ما وراء النيل.. مصر والعالم الكلاسيكى».

فى الكتاب المصاحب للمعرض كتب أمناء المتحف: جيفرى سباير وتيموثى بوتس وسارة كول، يقولون: «مصر بالنسبة للإغريق والرومان كانت العملاق الثقافى والسياسى فى البحر المتوسط. لقد أقام المصريون أقدم وأضخم مملكة فى عالمهم. وكانت بلادهم بما حققت من تقدم مثير هى أرض العجائب والغموض الذى لا يُضاهَى».

فى 22 يونيو 2018 نشر «سباستيان سمى» - الذى زار المعرض - تقريراً فى صحيفة «واشنطن بوست» بعنوان «من الفراعنة إلى كليوباترا ويوليوس قيصر.. كيف أثرت مصر فى اليونان وروما».

لقد بدأ الاتصال بين مصر واليونان قبل أكثر من خمسة آلاف عام. ففى عام (3000) قبل الميلاد اتصلت مصر بـ«المينوسيين» فى جزيرة كريت، ولا تزال هناك جعارين مصرية من عاج أنياب فرس النهر فى ركام المقابر الجماعية للمينوسيين.

وبعد ذلك بأكثر من ألف وخمسمائة عام جرى التواصل مع اليونان عبْر «الموكيانيين»، وقد سجلت بردية مصرية استخدام «الموكيانيين» كمرتزقة فى الجيش المصرى.. حيث حاربوا مع الجيش ضد خصوم الدولة المصرية جهة الغرب. وبعد ذلك بسبعة قرون عاد اليونانيون وحاربوا مع الجيش المصرى فى جهة الجنوب، وقد تركوا كتابات إلى الفرعون رمسيس الثانى بهذا الصدد.

حسب تقرير الواشنطن بوست.. فإن الفنانين الإغريق الذين سافروا إلى مصر قد عادوا إلى بلادهم محاولين تقليد مستوى ما رأوا فى مصر، ولولا تعلمهم فى مصر لكان النحت اليونانى مستحيلاً.

تمضى الصحيفة الأمريكية: إن الذى أطلق حضارة النحت فى اليونان وهى تاج الحضارة الغربية.. فى كلمة واحدة هى «مصر». ويفسِّر التقرير سبب تسمية بعض المعالم الفرعونية فى الغرب باللغة اليونانية وليست المصرية، ذلك أن اليونانيين حين زاروا مصر ورأوا هذه الحضارة المبهرة أطلقوا عليها كلمات يونانية، ومنهم انتشرت المسميات فى الغرب بكامله. فحين رأوا - على سبيل المثال- أهرامات الجيزة تذكروا كعك القمح الصغير فى بلادهم، والتى يطلقون عليها اسم «بيراميز» وقد بقى الاسم كما هو، وما زلنا نسميها «بيراميدز».

ويذكر «جورجى زيدان» فى كتابه «خلاصة تاريخ اليونان والرومان» أن «كيكروبس» أحد رجال المصريين هو أول من أدخل النحت إلى بلاد اليونان، فجاء إليها فى عددٍ من المصريين، وأسس مدينة أثينا عام 1556 قبل الميلاد، ثم إنه هو الذى علّم اليونانيين استخدام الحروف الأبجدية، واستخدام المعادن، وزراعة العنب. وحسب «هيرودوت» فإن المدن الإغريقية كلها هى مدن مصرية قديمة. لقد درس عمالقة الفكر اليونانى مثل: طاليس وأفلاطون وسولون وفيثاغورث فى مصر.

ويقول الدكتور طه حسين: إن اليونانيين فى عصورهم الراقية، يرون أنهم تلاميذ المصريين، وهو ما يوجزه الفيلسوف أفلاطون بقوله: ما من علم لدينا إلّا وقد أخذناه عن مصر. وهو ما دعا الكاتب وسيم السيسى للقول: «لولا حضارة مصر ما كانت حضارة اليونان». ويضيف السيسى: إن قانون الطفو - على سبيل المثال - كان مصرياً، وحين هتف أرشميدس قال: «ثيماسيكا.. ثيماسيكا» أى «تذكرتها.. تذكرتها» ولم يقل «آفاريكا.. آفاريكا».. أى «وجدتها.. وجدتها».. ذلك أنّهُ قد تذكر أنه تعلم ذلك فى مصر.

لقد كان لليونانيين بدورهم تأثير فى الثقافة والحضارة المصرية، وقد كان قرار الإسكندر الأكبر بتأسيس مدينة الإسكندرية، وصولاً إلى اللقاء التاريخى بين الملكة كليوباترا ويوليوس قيصر.. بمثابة مساحة مشتركة للإبداع والإنتاج.

كانت الإسكندرية هى مركز الثقافة الهيلينية، وهى الثقافة اليونانية خارج اليونان، والتى ازدهرت فى القرون الثلاثة التالية لوفاة الإسكندر الأكبر الذى رحل عام 323 قبل الميلاد. لقد كانت مكتبة وجامعة الإسكندرية القديمة هى المركز المعرفى الأول فى العالم طيلة سبعة قرون.

فمنذ عام 300 قبل الميلاد - تقريباً - وحتى عام 400 ميلادية، كانت الإسكندرية العاصمة الثقافية للعالم. وفى كتابها المتميّز «إحياء علوم الإسكندرية» تعرض الدكتورة رضوى زكى لمعالم حضارية من حقبة السيادة السكندرية الثقافية لقرون متتالية.

كانت مدينة الإسكندرية عولمية بامتياز، هى أول مدينة عولمية فى التاريخ. وبينما كان عدد سكانها مائة ألف نسمة، كان عدد الكتب فى مكتبتها (300) ألف كتاب!

وحسب عالم الفلك الشهير «كارل ساجان»: «كانت مكتبة الإسكندرية هى عقل الكوكب.. كما كانت أول مركز للأبحاث العلمية فى التاريخ». لقد درس أفلاطون فى الإسكندرية، ولمّا عاد أسس «أكاديمية» على أرض كان يملكها شخص يدعى «أكاديموس» فتم نسبة المدرسة إليه.

كان ختام تلك الحقبة الذهبية عالم الرياضيات المصرى «ثيون» وابنته «هيباتيا»، ولمّا قام مسيحيون متطرفون بقتل «هيباتيا» عام 415 ميلادية، أُسدِل الستار على مكتبة الإسكندرية التى قادت القوة الناعمة فى العالم سبعمائة عام.

لم تكن مكتبة الإسكندرية هى المكتبة الأولى فى مصر، وإنْ كانت المكتبة الأعظم. فقد سبقتها المكتبات الفرعونية. وعلى الرغم من تأكيد بعض المؤرخين بأنّ «ديميتريوس» حاكم أثينا لمّا سقط حكمه قد هرب إلى الإسكندرية.. ليصبح مستشاراً لبطليموس الأول، وهو الذى جاء بمكتبة أرسطو الخاصة لتكون نواة مكتبة الإسكندرية، إلّا أن النواة السابقة لمكتبة أرسطو كانت المكتبة الفرعونية المصرية.

ويمكن القول إن المكتبة الفرعونية ومكتبة أرسطو كانتا معاً عنواناً على التعاون الفكرى بين ضفتى المتوسط، وعنواناً كذلك على عولمة المكتبة وعالمية الإسكندرية.

كانت «المكتبة الفرعونية» فى معبد إدفو سابقةً على مكتبة الإسكندرية، ولما اكتشفها عالم الآثار الفرنسى «أوجست مارييت» وجدَ لوحةً فوق مدخل المكتبة عليها نقوش بقوائم الكتب الموجودة فى المكتبة.

لقد كانت «المكتبة الفرعونية» فى «إدفو» منظمة وموثقة إلى هذا الحد. وكانت هناك العديد من المكتبات الفرعونية الملحقة بالمعابد، حيث وضعت لفائف البردى بطريقة تتجاوز الحفظ، إلى الترتيب من حيث الموضوعات.

إذن فلقد كانت «المكتبة الفرعونية» ثم «مكتبة الإسكندرية»، كما كانت جامعة أون أو عين شمس.. أقدم جامعات مصر، ثم كانت مكتبة الإسكندرية ثانى الجامعات المصرية.

لقد كانت «الجامعة الفرعونية» و«المكتبة الفرعونية» نتاج عمل أعظم هو الاختراع المصرى للكتابة. كانت مصر - قبل السومريين - هى التى قدمت الكتابة للبشرية خلال الألفيّة الرابعة قبل الميلاد. فقد سبقت النصوص الهيروغليفية النصوص المسمارية السومرية بمائتى عام.

إن لوحة نارمر سابقة بمائة عام، ثم جاءت اكتشافات البعثة الألمانية بإشراف الدكتور «جنتر» على نماذج من الكتابة الهيروغليفية فى إحدى المقابر بمنطقة «أبيدوس» بمحافظة سوهاج، وهى أقدم من لوحة نارمر بمائة عام على الأقل.

إنها كتابات هيروغليفية مكتوبة بالحبر الأسود على الأوانى الفخارية، وكان اسم اللغة المصرية «مدونتر» أى «الكلام المقدس». ومن المثير أن الهيروغليفية لم تعرف حروف «الثاء» و«الذال» و«الظاء».. مثل العاميّة المصرية حالياً!

لقد تطوّرت اللغة المصرية، وأصبحت صالحة لكتابة القرارات والرسائل والمؤلفات. وتعدّ وثائق الدبلوماسية المصرية فى عهد الملك أمنحتب الثالث، والتى تتمثَّل فى رسائله هو وابنه إخناتون فى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، نموذجاً لتطور اللغة المصرية إلى المستوى الدبلوماسى الرفيع، على النحو الذى يتبدّى فى «رسائل تل العمارنة»، والتى توجد فى متاحف القاهرة وبرلين ولندن.

قدَّمت «أبيدوس» فى محافظة سوهاج - والتى كانت أول عاصمة لمصر، واستمرَّت عاصمة طيلة حكم الأسر الأربع الأولى - الكثير للعالم، كما قدمت أخميم وغيرها من حواضر سوهاج التاريخية الكثير مما يفوقُ الخيال.

توصلت العاصمة أبيدوس إلى اختراع القوارب لأول مرة فى التاريخ، كما أبدعت فنون النحت والعمارة، حيث جرى اختراع الطوب اللبن للمرة الأولى، ثم إنها لم تقِف عند الإبداع فى «المبنى» بل تجاوزت إلى «المعنى».. فاخترعت الكتابة، وأسست «المكتبة الفرعونية»، ووثَّقت التاريخ فى لوحات رائعة.. لا تزال كتاباً مفتوحاً حتى اليوم.

من سوهاج بدأت الدولة المصرية الموحدة، ومنها أول ملك وفيها أول عاصمة.. منها خرجت الكتابة والكتب، وعلى جدرانها لوحة تضم قائمة ستة وسبعين ملكاً.. منها تعلّم العالم تجاوز فكرة الطعام والشراب.. إلى فكرة الثقافة والحضارة.

من العاصمة أبيدوس، ومن العواصم الفرعونية الأخرى.. خرجت أعظم حضارة فى تاريخ الإنسان. ولقد كانت اليونان واحدة من تجلياتها، كما كانت الحضارة الرومانية كذلك. وحسب تعبير «واشنطن بوست»: «لقد استسلمت روما - بعد القيصر - بجنون لكل ما هو مصرى».

تتعدد مراكز الحضارة المصرية جنوباً وشمالاً.. لكن الكلمة الأولى فى كتاب الحضارة المصرية والإنسانية هى كلمة واحدة: سوهاج.

نقلًا عن «الوطن»