رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

كورونا تنعش «بيزنس الموت» فى الصعيد.. وهذه «تسعيرة» دفن ضحايا «الوباء المميت»

فيروس كورونا - أرشيفية
فيروس كورونا - أرشيفية

قد لا يؤدي فيروس كورونا المستجد إلى الموت فقط؛ بل إلى العبث بالموت والموتى على حد سواء، في معظم دول العالم.

لم يرأف كورونا ومعه الأحياء من البشر، بموتى الفيروس، فالوباء غيّر عادات وتقاليد كانت سائدة منذ قرون في مراسم الدفن ومتجذرة في ثقافات مجتمعية ودينية ومدنية وشعبية مختلفة حول العالم. 

والبشر غير المصابين الهلعين، كانوا سببًا للتنمّر، فطال الموتى فوق معاناتهم من أوجاع المرض الذي ينتهي بالاختناق، تنمّرًا بحجة الخوف من انتشار الفيروس، فمُنع دفن المتوفين في مقابر القرى والبلدان فى قرى مصر، ودُفن كثر منهم في مقابر جماعية، وتحديدًا مَن ليس لديهم أقارب يمكنهم تسديد تكاليف الدفن.

واستمر هذا التعامل مع موتى الفيروس المستجد على الرغم من إعلان "منظمة الصحة العالمية" في منتصف أبريل الماضي، أن جثث الموتى ليست معدية بحسب المعلومات المتوافرة حتى الآن. 

كذلك لم يُثبت حتى الیوم أي دليل على إصابة أشخاص بالعدوى نتيجة التعرض لجثة شخص آخر.

ومن المفاهيم الشائعة المغلوطة أنه ينبغي إحراق الجثث المصابة، لكن ذلك ليس صحيحًا، وإن تم تنفيذه فهو أمر يتعلق بالطقوس والمعتقدات، وليس له أي علاقة بالقواعد الصحية في الدفن بحسب منظمة الصحة العالمية، التي أكدت ضرورة الحرص طوال الوقت على صون واحترام كرامة الميت وتقاليده وطقوسه الدینیة ورغبة أسرته في الدفن. 

كما ينبغي تفادي العجلة في التخلص من جثة الميت بسبب كوفید-19، إلى حين تحضيرها وتكفينها. وأعلنت "المنظمة" بما يتعارض مع كل ما هو شائع حول عمليات الدفن، أنه يمكن لأسرة المتوفى رؤيته وتوديعه من دون لمسه أو تقبيله، على أن يتم غسل اليدين جيدًا بعد ذلك بالماء والصابون.

منع الدفن ظاهرة عامة

من جهة أخرى، انتشرت ظاهرة رفض الأهالي دفن ضحايا وباء كورونا في المقابر خوفًا من انتقال العدوى، في مختلف قرى الصعيد وبالتحديد فى محافظة أسوان وقامت إحدى القرى فى مركز كوم امبو ببناء مقابر جماعية من كثرة عدد الوفيات اليومية منها من الكورونا ومنها من شدة الحرارة. 

وفي صعيد مصر، تظاهر الأهالي ضد دفن إحدى ضحايا الوباء ما دفع قوات الأمن إلى التدخّل بالقوة. واضطُر ذلك الوضع "الأزهر" إلى إصدار فتاوى بهذا الخصوص تجيز دفن موتى كورونا، وتحذر المعترضين من مخالفة الشرع. 

وقال مفتي الديار المصرية، شوقي علام إن منع البعض دفن موتى فيروس كورونا المستجد "خطيئة" في حق كل مَن يعلم بأن الدفن "إكرام للميت".

"إكرام الميت دفنه" لم تعد تطبق هذه المقولة فى محافظة أسوان، بعد أن دخلت حسابات المال ضمن واجب دفن الأموات، وأصبحت لمراسم الدفن تسعيرة يضعها الحفارين حسب أهوائهم وبدون رقابة عليهم، وكأن الدفن أصبح نوعا من أنواع التجارة فى الأسواق.

قال أصولي مرعى، مدير عام بالمعاش، إن الدفن فى جبانة أسوان أصبح صعبًا ودخلت فيه التجارة، بعد أن صار الحفارون المعينون لهذه الجبانة يضعون تسعيرة مرتفعة لأهل الميت حتى يتمكنوا من دفن أمواتهم، مضيفًا أن جبانة أسوان قبل سنوات قريبة لم تكن بهذا الشكل وكان الدفن فيها مجانًا ويخرج أهل الميت من جيوبهم مبلغا ماليا بسيطا كـ"إكرامية" للحفار أو الملحد بعد الانتهاء من حفر القبر والفراغ من دفن الميت.

وأضاف أصولى مرعى، أن هناك مجموعة من الحفارين ظهروا فجأة ولا علاقة لهم بجمعية دفن الموتى المكلفة بتعيين هؤلاء الحفارين، وبدأوا فى الاستيلاء على الجبانة وبناء مساكن للمبيت فيها، ومعظمهم شباب يحولون قبور الموتى لـ"غرز" يسهرون فيها لتعاطى المخدرات – على حد قوله – مطالبًا بإصدار قرار من محافظ أسوان، بإغلاق بوابة الجبانة وإخراج كل من فيها سواء حفارين أو لاجئين، ولا يتم فتح الجبانة إلا فى حالة دفن متوفى جديد.

وأوضح "مرعى" أن الطامة الكبرى ما اكتشفه العام الماضى عندما كان متوجهًا للجبانة لزيارة والدته المتوفاة "عطيفة محمد على" والتى توفت عام 1993، داخل جبانة أسوان القديمة، وقراءة الفاتحة والدعاء لها، فاكتشف وسط حالة من الذهول عدم وجود الشاهد الموضوع على القبر وتغيير ملامح القبر، وعثر بدلًا منه على قبر لسيدة أخرى مدون اسمها على الشاهد الجديد الموضوع على مكان قبر والدته القديم، وتاريخ دفنها يرجع إلى شهر مارس من عام 2017، وحاول التقصى عن الحقيقة وسأل واستفسر عن الواقعة من المسئول عن الدفن، فوجد أن "الحفارين" نبشوا القبور القديمة ومنها قبر والدته لإخراج رفات وعظام الموتى القدامى وإحلالهم بموتى جدد، وتكسب هؤلاء الحفارون نظير فعل هذا.

وأشار إلى أنه تقدم ببلاغ للمحامى العام لنيابات أسوان حمل رقم 608 لسنة 2017، وعلى إثره قرر المحامى العام تشكيل لجنة لمعاينة الجبانة، وأثناء قيام فريق النيابة بزيارة المكان وجد أن مسئول الدفن استرجع اللافتة القديمة للمتوفاة ووضعها على قبر مجهول، إلا أن ضابط الشرطة اكتشف زيف هذه الخدعة من خلال اكتشاف حداثة البناء لهذا الشاهد، وتم القبض على مسئول الدفن وقررت النيابة حبسه على ذمة التحقيقات.

محمد حسن، أحد المواطنين بمدينة أسوان، تابع الحديث عن أسعار الدفن فى جبانة أسوان، قائلًا إن تسعيرة الدفن قديمًا كانت مبلغًا ماليًا يدفعه أهل الميت للحفار واللحد وكان مبلغا بسيطا قد يصل مثلًا لـ50 جنيهًا أو أقل أو أكثر حسب الظروف المادية لأسرة المتوفى، وكان الحفارون لا يعقبون على هذا المبلغ، ولكن مؤخرًا أصبحت التسعيرة إجبارية بعد أن وضع الحفارون مبلغ 800 جنيه كسعر للدفن داخل جبانة أسوان، حتى لو قام أهل الميت بحفر القبر وتلحيد المتوفى، فهذا السعر لابد أن يحصله أهل الميت لهؤلاء العاملين بالجبانة.

ولفت يوسف محمد، إلى أن طبيعة الأرض التى عليها الجبانة أصبحت غير صالحة للدفن بعد أن امتلأت هذه الجبانة العريقة وأصبحت أرضها مشبعة بالمياه الجوفية وظهرت فيها الحشائش الخضراء، ولابد من إغلاقها وتفعيل الدفن بالجبانة الجديدة التى بنتها المحافظة بمنطقة غرب أسوان، مشيرًا إلى أن الجبانة القديمة أصبحت متردية وبلا أعمدة إنارة بعد أن سيطر مجموعة من البلطجية – على حد قوله – على الجبانة ويكسرون مصابيح الأعمدة باستمرار، وشرع آخرون فى بناء منازل وتعديات مبان على الجبانة القديمة.

جمال عجاج، رئيس جمعية دفن الموتى بمدينة أسوان، قال إن الجمعية تقدمت بالعديد من الشكاوى والخطابات باسم الجمعية لمحافظ أسوان اللواء أشرف عطية، لمحاولة لقائه وعرض صور الانتهاك التى تقع داخل جبانة أسوان القديمة لعدد كبير من القبور.

وتابع "عجاج" الحديث، بأن هناك جريمة تُرتكب فى حق الموتى وحرمتهم، وأصبحت الجمعية عاجزة عن حماية الموتى، بعد أن تم سرقة القبور وانتهاكها، ونبش عظام الجثث ورفاتهم وتركها هؤلاء الذين لا ضمير لهم فى العراء أمام الكلاب الضالة، مضيفا أن جبانة أسوان تعانى من اكتظاظها بالموتى وعدم توافر أى أماكن لدفن جديد، ما ترتب عليه قيام الحفارين الموجودين بالجبانة بتفريغ القبور من الجثث القديمة وبيع التربة لذوى الجثث الحديثة وبأسعار باهظة بغرض الربح غير المشروع، وغير عابئين بمصير الجثث القديمة، كما أن الأمر أدى إلى تناثر عظام الجثث القديمة والتى سرقت قبورهم.

وأضاف "عجاج"، أن المقر الإدارى لجمعية دفن الموتى تم استغلاله والتعدى عليه من قبل أصحاب المحلات، وعندما حاولت الجمعية إخراجهم من داخل مقر الجمعية، استغلوا مدخل الجمعية بالكامل بمساحة 4 متر × 2 متر، ولا يستطيع أى عضو بالجمعية الدخول إليه حاليًا، تحت سمع وبصر مجلس مدينة أسوان وشرطة المرافق، مطالبًا محافظ أسوان بسرعة إنهاء هذه المشكلات والبحث عن حلول شرعية وقانونية تحت مظلة قرارات حاسمة وفورية تحقيقًا لمصلحة المواطنين وتنفيذًا للصالح العام، وحث رئيس جمعية دفن الموتى بأسوان، المسئولين بالمحافظة والهيئات الوقفية والخيرية، بسرعة المبادرة لتكريم المقبورين وصيانة القبور قبل اندثارها داخل جبانة أسوان القديمة.

أكد الأثرى علاء الدين سليمان، كبير مفتشى آثار أسوان الإسلامية، أن جبانة أسوان الفاطمية تعد ثانى أقدم جبانة فى العالم الإسلامى بعد "البقيع" بالمدينة المنورة، نظرًا لأن تاريخ الجبانة راجع إلى بدايات القرن الأول الهجرى بعد الفتح الإسلامى لمصر مباشرة، عندما تم العثور داخل الجبانة على أقدم شاهد حجري إسلامي مؤرخ بعام 31 هجريًا باسم عبد الرحمن الحجزى أو الحجازى، وهذا الشاهد محفوظ حاليًا فى متحف الفن الإسلامى بالقاهرة، مضيفًا أن الجبانة تحتوى على مجموعة من القبور التى ترجع للعصور المختلفة، وأطلق عليها اسم الجبانة الفاطمية نظرًا لأن غالبية الشواهد داخل الجبانة تعود للعصر الفاطمى حيث القبب الفاطمية القديمة، مضيفًا أن الجبانة تبلغ مساحتها نحو 6 أفدنة كانت تمتد من منطقة العنانى بوسط مدينة أسوان، والتى تسمى حاليا باسم "الجبانة البحرية" حتى طريق السادات حاليًا والمعروفة باسم جبانة "السيد البدوى"، ولكن مع امتداد العمران وشق الشوارع والطرق اندثرت معظم هذه الجبانة وبقيت منها مجموعتان فقط.

الأثرى محمد أبو الشيخ، المشرف العام الأمنى على المناطق الأثرية بأسوان، تابع الحديث عن الجبانة الفاطمية قائلًا: قبل 6 سنوات خصصت وزارة الآثار مبلغ 4 ملايين جنيه، لإنشاء جبانة بديلة على طريق غرب أسوان ووقف الدفن فى الجبانة الفاطمية، حفاظًا على القيمة الأثرية بالجبانة، والتى توجد فيها قباب فاطمية تعود للقرن الخامس الهجرى، وذلك لأن استمرار الدفن فى الجبانة يؤثر على القباب الفاطمية ويشوهها نتيجة اقتراب القبور بشدة من القباب الفاطمية، بجانب أن البعثات الأثرية لا تستطيع القيام بأعمال الترميم للقباب بسبب تزايد أعداد القبور، علاوة على تأثير المياه الجوفية على الجبانة بسبب انخفاض منسوب الجبانة عن سطح الأرض.

وأوضح الأثرى محمد أبو الشيخ، بأن قرار وقف الدفن بالجبانة الفاطمية لم يفعل، لأنه يحتاج إلى اجتماع عام لجميع الجمعيات المختصة بدفن الموتى وأخذ قرار بنقل دفن الأموات إلى الجبانة الجديدة، مع وجود قوة أمنية تنفذ القانون على من يخالف ذلك القرار، مشيرًا إلى ضرورة وجود حراسة أمنية بالجبانة التاريخية خاصة أن مسئولى الأمن الأثرى يتعرضون للمشادات مع الأهالى إذا حاولوا منع الدفن داخل الجبانة الفاطمية.