رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

السوس الذى ينخر فى النموذج الأمريكى

عماد الدين حسين
عماد الدين حسين



هل الولايات المتحدة ستتفكك قريبا، وأن النموذج الأمريكى فقد البريق فى عيون العالم، عقب الاحتجاجات الواسعة بعد مقتل المواطن الأمريكى من أصل إفريقى جورج فلويد بطريقة وحشية على يد رجل الشرطة العنصرى ديريك تشوفين فى مينيا بوليس بولاية منيسوتا يوم 25 مايو الماضى؟!
السؤال السابق يسوقه ويكرره البعض ممن احترف التنبؤ السريع على غرار قولهم إن العالم سيتغير تماما، بعد انتشار فيروس كورونا قياسا بما كان قبله.
تقول الحقائق على الأرض ــ حتى الآن ــ إن الولايات المتحدة ستظل الأقوى اقتصاديا على مستوى العالم بناتج قومى إجمالى 22 تريليون دولار وبعدها بمراحل الصين 16 تريليونا.
وهى الأقوى عسكريا بمراحل حيث تنفق سنويا أكثر من 700 مليار دولار وهو مبلغ يزيد عما تنفقه الدول الثمانى التى تليها ومنها الصين وروسيا وبريطانية وفرنسا والسعودية والهند واليابان وألمانيا. وستظل الأقوى تكنولوجيا، لكن أغلب الظن أن الذى سيتأثر هو النموذج الاجتماعى والحقوقى والإنسانى، وربما السياسى.
الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يستحق الكثير من اللوم، وأداؤه فى الأزمة كارثى، إذا نظرنا له من زاوية حقوق الإنسان، هو رئيس مقسّم وليس موحدا لبلاده، بل يخاطب ناخبيه البيض المتعصبين فقط، وكل ما يشغله هو الفوز بالانتخابات المقبلة مهما كان الثمن.
الحوادث العنصرية ضد السود ربما تكون قد أصبحت أكثر وضوحا فى عهد ترامب، لكنها ليست من اختراعه، هى موجودة ويحاول المجتمع أن يخفيها، ورغم كل الإصلاحات خلال قرون، ما زالت كامنة تحت جلد الكثير من البيض.
مشهد فلويد وهو يستغيث قائلا: «لا أستطيع التنفس»، ذكّر أمريكا والعالم أن عليها قبل أن تعظ العالم بشأن الحريات وحقوق الإنسان أن تفكر فى نفسها وما يحدث داخلها أيضا.
وحتى لا نغرق فى التفاؤل فإن النموذج الديمقراطى الموجود فى الولايات المتحدة، ما يزال فاعلا ويصعب تصور سقوطه بسرعة، كما يتخيل البعض لأنه الأفضل مقارنة بما يحدث فى الصين أو روسيا أو إيران. هذا النموذج هو الذى يجعل مئات الآلاف من البيض فى أمريكا يتظاهرون ضد العنصرية، ومثلهم فى بريطانيا ودول أوروبية كثيرة.
لكن الملاحظة الأساسية التى يوردها بعض المحللين تتمثل فى أن نموذج الديمقراطية على الطريقة الأمريكية، ربما لم يعد ينفع الكثير من الجماهير العريضة، خاصة التى تشعر بالحرمان، وترى نفسها عاجزة عن التعبير الحقيقى عن مصالحها ناهيك عن تحقيقها. هى تشعر أنها تحولت إلى أداة فى لعبة سياسية من أجل حماية مصالح اللوبيات المالية والاقتصادية لمجموعة من كبار المنتفعين فى الداخل والخارج.
صحيح أن هذه الجماهير تشارك فى الانتخابات المختلفة، وتستطيع أن تختار أوباما ذا الأصول الإفريقية، أو ترامب ذا النزعات العنصرية، لكن معظمها اكتشف أنه لا يوجد فرق جوهرى بين سياسات وليس أشخاص هذا وذاك فى التحليل النهائى، والسبب أن هناك قوى مالية واقتصادية ضخمة صارت هى التى تتحكم فى تسيير الأمور.
هذه الجماهير تشارك فى الانتخابات لمدة يوم واحد، وتساهم فى إيصال هذا أو ذاك للبيت الأبيض أو الكونجرس، ثم تعود الجماهير العريضة خصوصا من السود والهسبانك إلى بيوتهم دون أن تتغير أحوالهم الجوهرية.
أحد الدروس التى كشفتها الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد أن الفئات المهمشة من السود وغيرهم قوة مهمة فى البناء، لكنها قد تتحول فى غمضة عين إلى قوة للهدم أيضا إذا شعرت أن حياتها فى خطر.
أحد الآراء التى ترددت بعد حادث فلويد يقول الآتى: «على المتنطعين فى ساحات التنظير للديمقراطية على النمط الأمريكى أن يتواضعوا قليلا أمام الحقيقة الظاهرة للعيان، وهى أن الديمقراطية، عندما تفقد بعدها الاجتماعى وتصبح مجرد أداة تمهد لأصحاب المصالح من بوابات المال والأعمال والإعلام الإمساك بمقاليد الحكم دون وعى منهم لما يجرى فى قاع المجتمع.
شخصيا أميل كثيرا لتأييد هذا الرأى الذى يربط بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ودولة الرفاة كما هو مطبق فى بعض البلدان الأوروبية الإسكندنافية، لكن ديمقراطية تزيد فقط من ثروات قلة وتحرم الغالبية محكوم عليها أن تشهد توترات دائمة وأحيانا ثورات غاضبة حتى لو جاءت عبر صناديق انتخاب شفافة.
القوة العسكرية والتكنولوجية لأمريكا ثبت أنها تخفى ورما خبيثا يشبه أو ما يشبه السوس ينخر فيها من الداخل. القوة الحقيقية تتمثل فى الوئام الاجتماعى وشعور المواطنين بقيمة العدالة الحقيقية ونظام سياسى متصالح مع نفسه ويساوى بين أفراده فى الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وليس على أساس اللون أو الجنس أو الدين.

نقلا عن "الشروق"